كان من المتوقع أن يقابلَ التطور في المجال العلمي ضمور في الفلسفة، وتحجيماً لدورها، لأنَّ الحراك العلمي يضيفُ باستمرار اكتشافات جديدة إلى أرصدته. كما وصل به الطموحُ إلى صياغة «نظرية كل شيء» بينما لا تزال الفلسفة قيد سلسلةٍ من الهوامش على المتن الأفلاطوني. وبالتالي لا يمكنُ العودة إلى الفلسفة سوى من بوابة التاريخ وسردنة مدارسها، تفادياً للأخطاء التي وقع فيها الأسلاف الصالحون، لكن المشهدَ العالمي يخالفُ هذه النظرة بشأنِ مصير الفلسفة، ويؤكدُ أنَّ مكانها ليس المتحف في عصر العلم. ولا يقتصرُ دورها في شرحِ الأحجية الألسنية، بل يبحثُ الإنسانُ المعاصر عن وصفاتٍ لحسن التدبير العقلي والتوازن النفسي في رحاب الفلسفة.
صحيح أنَّ هذا المبحث المعرفي لم يعدْ مؤثراً في المستوى العام، والدليل هو ما يلاحظه الباحث الأمريكي وليم ب. إرفين، إذ يعتقد بأنَّ الفلاسفة لم يعودوا يخافون النفي ولا المطاردة والسبب حسب تفسيره هو أنًّ الحكومات أصبحت متنورة، كما أنَّ الفلاسفة نجحوا في جعل أنفسهم غير مرئيين. يبدو أنَّ ما يذهب إليه صاحبُ «دليل إلى الحياة الكريمة» غير مقنع لمعرفة عدم فاعلية الفلاسفة، فالأنظمة بغض النظر عن خلفيتها الأيديولوجية لا تتساهل مع الأفكار المزلزلة، ولم ينعزلْ الفلاسفةُ عن طيب الخاطر، بل هم يريدون الحضور في الفضاءات العامة، على غرار ما كان يقومُ به سقراط في أجورا من التواصل الحي مع مُتابعيه، لكن ذلك الإجراءُ يتطلب وجود ممرات من خلالها يكونُ التفكير الفلسفي أكثر تأثيراً في واقع الفرد ورؤيته الحياتية. والمتأمل للأدبيات الفلسفية الحديثة يشدهُ الاهتمام بالفيلسوف الألماني نيتشه ولا يفهمُ هذا الموضوع بأنَّه مجرد رد الاعتبار لفيلسوف لم يُنْصفْ في عصره، بل لأنَّ صاحب «هكذا تلكم زرادشت» كان واضحاً وجريئاً في تشخيص أعراض المُعاناة الإنسانية وما يعنيه إرجاء الحياة من الكوارث بالنسبة للفرد والمجتمع. وبلغ أقصى الحد من الصراحة حين كشف الغطاء عن الأنانية التي ما فتئ المرءُ ينكرها تحت مسميات شتى وهو يقولُ: لم يحدثْ أبداً لأي شخص أن قام بفعل كان موجهاً للآخرين دون أي دافع شخصي. يستعيدُ الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي في كتابه «الحكمة التراجيدية» أفكار نيتشه ساعياً إلى الإبانة عن خصوصية صوته الفلسفي، مُتطلعاً إلى حسن توظيفه بعدما أسيء إليه في حقبة تاريخية معينة. يسردُ أنوفراي في المقدمة قصة كتابه عن نيتشه فقد كان مخطوطه مرمياً في الركن لردح من الزمن، قبل أن يرجعَ إليه والسؤالُ يأخذ بتلابيبه، هل تعدُ هذه الصفحات خطيئة من خطايا مرحلة الشباب؟ ويؤكدُ في السياق ذاته بأنَّه لم يحذفْ من المضمون مُكتشفاً استهلاله لمؤلفاته بمقتبسات واردة في متن الكتاب.
ومعنى ذلك أنْ نيتشه له الأولوية في مشروع ميشال أونفراي الفلسفي، والأهمُ في هذا الإطار هو ما يخلصُ إليه المؤلفُ بأنَّ الفهم الفعلي للفيلسوف، لا يتمُ إلا بالنظر إلى مغامرته الحياتية الذاتية، وبالبطع تتمثلُ سيرة نيتشه لهذه القاعدة أكثر من غيره.
ومعنى ذلك أنْ نيتشه له الأولوية في مشروع ميشال أونفراي الفلسفي، والأهمُ في هذا الإطار هو ما يخلصُ إليه المؤلفُ بأنَّ الفهم الفعلي للفيلسوف، لا يتمُ إلا بالنظر إلى مغامرته الحياتية الذاتية، وبالبطع تتمثلُ سيرة نيتشه لهذه القاعدة أكثر من غيره. يعترفُ ميشال أونفراى انتسابه إلى التيار اليساري، لكن ذلك لم يحل دون التعمق في عالم الخصم اللدود للاشتراكية الماركسية، لأنَّ نيتشه، حسب قراءته من الفلاسفة القلائل الذين تتيحُ لك رفقتهم وعشرتهم فرصةَ بناء كيان وجودي، ويعلنُ أونفراي مبدأه عن علاقته بالغريم قائلاً، إنَّه لا يستخفُ بالخصوم إذا أتاحت له انتقاداتهم معرفة صورة أفضل عن نفسه. لا شكَّ في أنَّ هذه المرونة تُجنبُ العقلَ مغبة الانزلاق نحو شرك الجمود. والاستثنائي في روح نيتشه يتمثلُ في نبذه للوصايا التي تنصُ على الزهد وفصل الجسد عن طاقاته الحيوية فهو يحتفي بديونيسوس، وبكل ما يكثف التذوق بالحياة. والمسرح والموسيقى، الكتابة والرحلات والاستعمال المفرح للجسد. وهذا ما يجعلُ نيتشه متفرداً في رأي ميشال أونفراي من بين أقرانه، ونبرة شذراته البليغة لا تشبه كلامهم المُحنط ولا تنظيراتهم المجردة. ما مرَّ به المخطوطُ يعتبرهُ الكاتبُ مغامرة لأنَّ أوراقه تاهت في أدراج الناشرين إلى أن يجدَ له نسخة لدى أحد الأصدقاء، وهذا ليس كل ما يمكنُ قوله عن الكتاب، بل الملمحُ الأبرز في منهاجه هو عدم تقيده بالتفسير الأكاديمي، إذ يؤثرُ أونفراي تقديم صورة منسقة عن نيتشه بمعزل عن نسخ يسارية أو تحررية، علماً بأنَّه من السهل إيجاد مسوغات لكل ذلك من خلال الاقتباسات المنتزعة من سياقها النصي. يعتقدُ ميشال أونفراي بأنَّ العوامل العديدة تدخلت بيننا وبين نيتشه، منها الحرب العالمية الأولى والثانية والأيديولوجيات والقراءات المشوهة، ناهيك بالدور التدميري لشقيقته إليزابيت فورستر التي سوقت بالتواطؤ مع التيار النازي الصاعد في ألمانيا للتأويلات الشعبوية لمفهوم إرادة القوة والإنسان الأعلى.
وخالفت وصية شقيقه عندما طلب منها أثناء نزهة في عام 1879بأنْ يُدفن بعيداً عن جلبة الفضوليين والكهنة، بعد التحكم بجسد نيتشه تفرغت إليزابيت لأوراقه ومسوداته فصنعت من أخيه مفكراً يمكن للمعسكرات المعادية لمعسكره تطويعه لصالحها، والأسوأ من سلسلة التعسفات التي اقترفتها اليزابيث بحق شقيقها، حسب رأي أونفراي هو الترويج لفورهر بأنَّه نسخة من الكائن المتفوق الذي كان يؤمنُ به نيتشه. ولم تكتفِ بذلك، بل أهدت لسيد الرايخ الألماني الجديد العصا التي تعود إلى صاحب «العلم المرح» ومن ثمَّ يبادرُ جيش من المفكرين لتكريس صورة نيتشه مرتدياً زي الضباط النازيين كما أخذ لدى الماركسيين مثالاً للمفكر الرأسمالي والبورجوازي المضمحل وملاك العقارات. أضف إلى هذه التوظيفات المسيئة لمشروعه الفلسفي، المُعاناة التي كابدها نيتشه في حياته مع المرض والوحدة، ستدرك بأنَّه كان مُحاصراً من جميع الجهات. يقولُ أونفراي إنَّ المؤسسة الفلسفية لا تُحب نيتشه ولا ترتاحُ بالفرادة لذلك يفضل حراس القيم. ومن المؤكد أنَّ القفز على الأسيجة دائماً يثيرُ عاصفة من ردود الفعل المُستنكرة. لا شيء أكثر مدعاة للسخرية من توظيف نيتشه لأغراض سياسية، لأنَّ الحقل السياسي لا تعملُ فيه غير العقول الوضيعة، لذا فقد دعا إلى الابتعاد عنه والمُحافظة على النقاء من الأدران المتأصلة في هذا المُستنقع. وتستشف مما يصرحُ به على لسان زرادشت أنَّه كان رافضاً للحرب والاحتفال بسفك الدماء «كانوا يستلهمون جنونهم ليعلموا الناس أنَّ الدماءَ تقوم شاهدة الحق، وقد جهلوا أن أفسد شهادة تقوم للحق إنما هي شهادة الدم لأنَّ الدم يقطر سماً على أنقى التعاليم فيحولها إلى جنون وأحقاد» ولا ترتقبُ فلسفة نيتشه من الشعب المُصاب بالتعصب السياسي والقومي سوى الانغراز في وحل التبلد.
وتقع في أدبيات فيلسوف الريبة على التحذير من الركون إلى أي شخص، وإن كان أحب الأشخاص إلينا فكل شخص هو سجن وانزواء أيضاً ولا يعادلُ هذا الخطر إلا الركون إلى الوطن وإنْ كان أشدَّ الأوطان معاناة وأحوجها إلى المعونة، لأنَّ الوطن في المُحصلة الأخيرة ليس أكثر من بلاغة المُتحاربين الأميين.
وتقع في أدبيات فيلسوف الريبة على التحذير من الركون إلى أي شخص، وإن كان أحب الأشخاص إلينا فكل شخص هو سجن وانزواء أيضاً ولا يعادلُ هذا الخطر إلا الركون إلى الوطن وإنْ كان أشدَّ الأوطان معاناة وأحوجها إلى المعونة، لأنَّ الوطن في المُحصلة الأخيرة ليس أكثر من بلاغة المُتحاربين الأميين. ما يضاعف من حرارة هذا النص أنَّ ميشال أونفراي تناول فلسفة نيتشه بلغة واضحة، تكشفُ عن عقلية سائحة في مجرةٍ من الأفكار المُتناثرة في مؤلفات فيلسوف الإرادة. ومن المعلوم أن قيمةُ نيتشه لا تكمنُ فحسب في انشقاقه عن تاريخ الفلسفة المُثقل بالأنموذج، وشنه حرباً لا هوادة فيها على المُومياوات الفكرية، بل يستمدُ نبوغه من الالتفات إلى ما هو من جوهر الحياة لكن نادراً ما تصادفهُ على طاولة سدانة الحكمة. ومن يتصدرُ تراتبية سلمه في تصنيف الفلاسفة هو الأقدر على الضحك الذهبي، وترى على رأس قائمته ديوجين، وإمبييدوكليس، ومونتاني، ومن الواضح أنَّ نيتشه يوافقُ في هذا المنحى نظيره اليوناني ديموقريطس، فالأخير كان يعتقدُ أنَّ الضحكة هي لسان الحكمة وما يكسبُ النفسَ خفةً في برنامج نيتشه هو الرقص المرتبط بالضحك، لذلك يعدُ كل يوم لا يرقصُ فيه الإنسانُ ولو مرة واحدةً يوماً مفقوداً، والحكمة التي لا تستدعي ولو قهقهة ضحك ليست إلا بياناً باطلاً. يعلقُ ميشال أونفراي على مفهوم الرقص لدى نيتشه موضحاً بأنَّ هذه الحركة هي خداع للمكان واستهزاءُ بالثقل ولعبُ مع الجسد والأحجام، ومحاكاة للطيران. وللموسيقى منزلة مرموقة في أجندة هذا المشاء المُصاحب لظله إذ صرح بأنَّ الحياة المُفتقرة إلى الموسيقى هي خطأ وعمل شاق ومنفى.
علاوة على كل ما سبق ذكره من الفتوحات والإنارة لأصقاع مُعتمة تغافل عنها المغامرون في جغرافية الفكر، فإنَّ نيتشه في طليعة الفلاسفة الذين أدركوا دور الأطعمة والمُناخ على المزاج والعقل يقولُ في «هذا هو الإنسان» بأنَّ اهتمامه بالنظام الغذائي يفوق دقة أي لاهوتي. لافتا إلى علاقة التحرر من أخلاقيات مُتشنجة بأنواع الأطعمة. إلى هنا رُبَّ صوتٍ يتدخلُ ملمحاً إلى أنَّ الاسترسال في الحديث مملُ ومن الضروري الاكتفاء بكتابة مقولة تفيدنا في حياتنا اليومية. تلبيةً لهذا الطلب يقفلُ القوس بنصحية نيتشه «لنكنْ شعراء حياتنا ولنكن كذلك في أدقِ التفصيلات وأكثرها ابتذالاً» يتدخلُ الصوتُ من جديد مستفسراً هل هذا كل ما عليك القيام به لتكون نيتشوياً؟ هل أنت من دعاة النيتشوية؟ أن تكون نيتشوياً يعني أولاً أن تغدوَ نفسك وتمشي لوحدك ولا يرتجفُ قلبك من النظر إلى سماءٍ مُثقلةٍ بغيوم داكنة. وأن تقولَ نعم للحياة وتصنعَ من معطياتها العادية ما هو استثنائي. وتمتحن العقائد والثوابت والكتب بعاصفة من الشك. أما عن الدعاة والدعوية فهذا لا يتفقُ مع روحية نيتشوية لأنَّ التلميذ لا يحسن مكافأة المعلمِ إذا ظل فاغراً فمه بما يسمعُ منه. أكثر من ذلك إذا اقترحت شيئاً فإننى أقترح بالتأكيد مُقاطعة نيتشه ليس لأنَّ الذكاء الاصطناعي قد طوى زمن الفلاسفة كطي فوكوياما لسجل التاريخ، بل توفيراً لعناء الاصطدام مع الظواهر المرضية التي استفحلت في البيئة المُجتمعية هل تخوضُ معارك دونكيشوتية؟ ومن ثمَّ ألا ترى أنَّ في تبعيتك للديناصورات المعاصرة وأنت تترنمُ بمقتبسات من كتب نيتشه تسيء إليه وتجعلُ من فلسفته مسخاً وتهريجاً؟ كما أنا لا أحبُ أن يلعب الوهم بالرؤوس وتتخيل بأنَّ العالم يستشير الكتب والفلاسفة قبل أن يدشن المشاريع أو يعلن الحرب. يقاطعني الصوت ساخطاً إذا كان الوضع على هذا المنوال، لماذا تصدع رأسنا بالكلام عن نيتشه وتبثُ في عقولنا سمومه؟ صحيح أن وقتك أثمن من أن تضيعه في قراءة المقال، لكن يشاركني المحرر في الجرمِ لأنَّه نشر ما كتبته.
كاتب عراقي