ماذا يعني بقاء الغنوشي رئيسا لبرلمان تونس؟

حجم الخط
13

عمليا ستخدم إزاحته من رئاسة البرلمان التونسي في هذا الظرف بالذات، مَن يهيئ لظهور صنم جديد في تونس قد يختلف شكلا فقط عن الأصنام التقليدية التي عرفتها. لكن كيف سيكون شكل ذلك البرلمان بعد أن يُزاح راشد الغنوشي من رئاسته، كما يخطط لذلك بعض النواب؟ هل ستختفي منه مثلا كل مظاهر «البلطجة» ومشاهد الشتم والسب التي اعتادها التونسيون، وسيصبح وعلى العكس من ذلك مجلسا هادئا ساكنا ورصينا، ينكب فقط على خدمتهم، وحل مشاكلهم وأزماتهم؟
إن أخذنا بالاعتبار ما فعله الرئيس قيس سعيد السبت الماضي، أي إقدامه على اختيار شخصية مقربة منه، ومن خارج الأحزاب هو وزير داخلية الحكومة المستقيلة لتكليفه بتشكيل المقبلة، فهل سيكون ممكنا في كلا الحالتين، أي في حالة تزكية الحكومة، أو حالة إسقاطها من البرلمان، أن نتصور أنه سيكون هناك بالفعل مجلس نيابي بدون الغنوشي قادر على أن يقوم بالأدوار، التي خوله لها الدستور في ظل نظام شبه برلماني؟ ربما سيكون الأمر مخيبا للآمال، لكن خيبة أخرى تلوح هذه المرة أمام أنظمة الثورة المضادة. فعلى قدر ما أنفقت من أموال، وعلى قدر ما طبّل وهلّل إعلامها على مدى شهور، لقرب سقوط من وصف بالرجل القوي في تونس، وعلى قدر ما قدّمه من أن تصويت الثلاثين من الشهر الجاري بالبرلمان التونسي، سيكون موعدا تاريخيا ستحسم فيه تونس نهائيا مع الزعيم الإخواني راشد الغنوشي وحركة الإخوان، فإن صدمته ستكون على الأرجح كبيرة، فقد يضطر في الساعات المقبلة للبحث عن مخرج يحفظ به ولو بعضا من ماء وجهه، كأن يروج مثلا أوهاما وأكاذيب جديدة، بأنه قد تحقق ولو نصف انتصار على الغنوشي وعلى الإسلاميين في تونس. ولعل أشياء كثيرة تؤشر على ذلك، وتجعل كل الحملات الإعلامية الإماراتية والمصرية بالخصوص، تعزز على العكس حظوظ الرجل في تخطي ما يعد له غدا تحت قبة مجلس نواب الشعب.
والسر في ذلك ليس بالطبع في انه كالقطة بسبع أرواح، أو أن له حصانة أو حماية غير عادية، تجعله يخرج دائما بسلام من كل الهجمات، ومحاولات الاغتيال الرمزي التي طالته وتطاله، بل لأنه يعرف ببساطة كيف يستفيد جيدا من ضعف خصومه، واختلاف دوافعهم وغاياتهم، وتشتت أهدافهم ومطالبهم. لكن كل العقلاء والمنصفين يرون أنه بات محرارا حقيقيا لقياس ثبات واستقرار التجربة الديمقراطية في تونس، أو هبوطها وتراجعها. ولأجل ذلك فإنه يبدو من الطبيعي جدا أن تحشّد تلك القوى في الداخل والخارج للمس به، ولإزاحته بأي طريقة كانت من المشهد السياسي، وتحت تعلات ومبررات عديدة وواهية. ففي بداية العام الجاري مثلا، رأت من صارت زعيمة لحزب الفلول في تونس، أن الغنوشي صار يمثل خطرا على الأمن القومي التونسي، ثم خرج بعدها من قدموا قبل أيام طلبا لإزاحته من رئاسة البرلمان ليقولوا، إن مبررهم لذلك هو فشله في إدارة البرلمان، وتدخله في السياسة الخارجية، وتجاوزه أحكام الدستور وإدلاؤه بمواقف سياسية في قضايا دولية وإقليمية حساسة، لا تنسجم مع المواقف الرسمية للدولة التونسية، وتوظيفه إدارة البرلمان لخدمة أغراض حزبية، وتهميشه دور أعضاء مكتب المجلس.

بقاء الغنوشي في منصبه قد يكون صمام أمان لمنطق التوافق ولفكرة تعايش الإسلام والديمقراطية

وبغض النظر عن كل تلك الاتهامات السياسية، فإن السؤال الأكبر، ما الذي اقترفه الشيخ الغنوشي من جرائم أو أخطاء، أو إخلالات كبرى، أو أفعال خطيرة اقتضت إقدام نواب وكتل برلمانية في تونس على تقديم طلب عاجل وملحّ لسحب الثقة منه من رئاسة مجلس النواب؟ وما هي الخطيئة أو الخطايا التي قد يكون رئيس البرلمان ارتكبها بنظر من يقدمون أنفسهم سدنة الحداثة، وحماة الدولة الوطنية في تونس؟ هل تراه أعلن مثلا وبشكل مفاجئ عن أنه آن الأوان لأن تقوم دولة إسلامية في تونس تلتزم بتطبيق الشريعة في نظمها ومعاملاتها؟ وهل تراه قال إنه لابد من إنهاء عقود طويلة من الفرنسة والتغريب القسري للتونسيين، أو قرر من جانب واحد أن يلغي فصولا شبه مقدسة من مدونة الأحوال الشخصية من قبيل تلك التي تمنع تعدد الزوجات، وتحظر الأوقاف وتبيح التبني؟ لقد اكتفى الجمعة الماضي وهو يخرج من اجتماع مكتب مجلس البرلمان، الذي تقرر فيه عقد جلسة للتصويت على سحب الثقة منه، بأن يقدم درسا بليغا لهؤلاء في المدنية والديمقراطية بأن قال للصحافيين، الذين كانوا في انتظاره، إنه وافق رغم الإخلالات الشكلية الموجودة في الطلب على عقد تلك الجلسة «احتراما للثلاثة والسبعين نائبا الذين تقدموا باللائحة (أي لائحة سحب الثقة منه) واحتراما للديمقراطية التونسية، وتقديرا بأن رئيس المجلس النيابي لم يأت على ظهر دبابة، بل جاء بعد فرز وراء فرز. فرز داخل حزب النهضة الحزب الأكبر في البلاد، وفرز في أوسع الأحياء الشعبية في العاصمة التي انتخبته، ثم فرز آخر داخل المجلس الذي انتخب من أغلبية نوابه. وبالتالي فرئيس المجلس ليس منزعجا أن تسحب منه الثقة، لأنه يعلم جيدا أنه لا يبقى ساعة واحدة رئيسا للمجلس، إلا بإرادة النواب، ولذلك فقد قبلنا إعادة اختبار الثقة، ومن تقدموا بالعريضة يريدون سحب الثقة، لكن تقديرنا أنها ستكون لحظة مهمة لتأكيد الثقة وليس لسحبها».
لكن لنعد قليلا إلى الحسابات التي دفعت أطرافا داخلية وخارجية لتشن تلك الحملة الشعواء على الغنوشي، وتطالب بعد شهور قليلة فقط بإقصائه من رئاسة برلمان لم يدخله على ظهر دبابة كما قال. فمنذ الجلسة الأولى لأداء القسم لاحظ التونسيون جيدا ما فعلته عبير موسي ومجموعتها من انتهاك، ورفض للاعتراف بشرعية رئيس المجلس، أو حتى القبول بأداء القسم، ثم مع تكرر التعطيلات التي كانت تقدم على أنها احتجاجات ومظاهر الفوضى، التي كانت توصف بأنها اعتصامات مشروعة، بدا يتكشف أمام الجميع أن الغرض من خلط الأوراق وتصوير المواجهة بين الغنوشي وموسي على أنها صراع بين من يريد الحفاظ على الدولة المدنية، ومن يخطط للالتفاف عليها وأخونتها، واستفزاز رئيس البرلمان، والتطاول عليه، واستخدام ألفاظ جارحة ومسيئة في حقه، هدفها جرّه أو جرّ أنصاره، أو حزبه إلى رد الفعل بعنف، وهو الأمر الذي لم يحصل، رغم تكرر المحاولات وتنوع أشكالها وأساليبها. غير أنه ووراء كل التبريرات والاتهامات التي قدمت للتخلص منه فإن أكبر خطيئتين لم تغفرهما قوى الثورة المضادة للغنوشي، هما تفكيره التوافقي، وحديثه الدائم عن أن سفينة الوطن تتسع لجميع التونسيين، مهما اختلفت أفكارهم أو آراؤهم، ثم اعتباره الديمقراطية والإسلام لا يتضادان ولا يتخاصمان، وأنه من الممكن جدا، بل من المطلوب أن يتواجد من يصفه بالمسلم الديمقراطي.
ولاجل ذلك فإن بقاءه في منصبه قد يكون صمام أمان لمنطق التوافق ولفكرة تعايش الإسلام والديمقراطية، داخل تجربة تونسية يريد لها البعض أن تنتهي إلى الفشل الذريع ولو كان ذلك عبر إعادة إنتاج صنم جديد.
كاتب وصحافي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول امين:

    السلام عليكم
    تحية من المغرب الأقصى .
    اتمنى أن يصفع تأكيد الثقة في الاستاذ الغنوشي كل هذه العصابة المتصهينة والافاكة والمرتشون وخونة الأمة التونسية.
    إنشاء الله سيبقى الاخ الغنوشي بكل تأكيد.
    اللهم رد كيدهم في……

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية