هي جميلة جدًا، وهو كذلك، لكنه غالبًا لم يكتبها؛ تلك الرسالة التي عاودت الظهور بمناسبة موته المعلن وغير النهائي.
لا أذكر بالتحديد تاريخ ظهور خطبة الوداع المنسوبة إلى الروائي الأشهر في كل الدنيا غابرييل غارثيا ماركيز، لكن عمرها لا يقل عن خمس سنوات، عندما قطع شوطًا على طريق النسيان، امتثالاً لداء عائلته المتأصل الذي لمسناه في ‘مائة عام من العزلة’ أشهر روايات التاريخ بعد دون كيخوت.
‘لو شاء الله أن يهبني شيئًا من حياة أخرى، فإنني سأستثمرها بكل قواي، ربما لن أقول كل ما أفكر به، لكنني حتمًا سأفكر في كل ما أقوله، سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه، سأنام قليلاً، وأحلم كثيرًا مدركًا أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور’ هذا المفتتح ذو المسحة الرسولية يصنع من ماركيز مسيحًا جديدًا، لكنه لا يبشر بالآخرة بل بالحياة الدنيا.
عذوبة الأسلوب في الرسالة، الوصية، أو العظة المنبرية تليق بماركيز الكاتب، وحب الدنيا ‘يلبق’ لماركيز الإنسان: ‘لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقًا متى شاخو، من دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق’ ذكاء المفارقة في الجملة الماركيزية يبدو واضحًا كذلك في الوصية، لكن الكآبة التبشيرية ليست له، وهذا اليقين بأنه قد اقترب ورأى ليس من طبيعته الأكثر ميلاً إلى التواضع المراوغ، وغياب السخرية في الرسالة عيب شنيع، لا أظن أن ماركيز يمكن أن يقع فيه، حتى في ظرف الاقتراب من الموت.
قيل في بداية ظهور النص الوداعي إنه منقول عن ماركيز عبر صديق مقرب، ولم يهتم ماركيز أو لم يجد الفرصة لينفي أو يؤكد إن كان النص العذب له أم لا! ولكن المؤكد أنه امتلك واحدًا من أجمل الأساليب، له سماته المميزة، ولذا فهو قابل للتقليد. مثاله في لغتنا العربية طه حسين، ولا تسعفني الذاكرة المرهقة بأسلوب كاتب آخر يغري المنتحلين بالانتحال.
من سخريات القدر أن الرجل الذي عاش حياته الطويلة ليروي عن الآخرين، انتهى مرويًا عنه، وأمست السنوات الأخيرة من حياته غيابًا غامضًا لا يشبه سوى غياب ملكلياديس، الغجري المشعوذ بالعلم، الذي يشبهه ماركيز بأكثر مما يشبه أي شخص آخر من أبطال رواياته.
ملكلياديس كانت قوته في معرفة بالكيمياء والفيزياء وظفها في إبهار سكان القرى باعتبارها معجزات، من المغناطيس الذي يجذب الحديد إلى أعجوبة لوح الثلج، ولا بأس من تمرير كذبة تحضير الذهب وسط المعجزات الظريفة!
وكذلك كان ماركيز، اشتغل على صنعته بدأب، عاش بحواس مفتوحة لاستقبال العالم واستفاد من كل ما مر به ليكون الروائي الأشهر والأكثر عذوبة في العالم على الأقل منذ نشر ‘مئة عام من العزلة’ عام 1967 إلى اليوم.
حتى الصحافة، مقبرة المبدعين استفاد منها ماركيز، ركبها ولم يقع تحت حافرها؛ ليس فقط باستعارته بعضًا من أعذب حكاياته من تغطياته الصحافية، بل باستعارة السهولة والاختصار والدقة، دون أن يسمح لماكينتها بتجريده من ذكاء المفارقة وعمق السخرية. وهكذا كان بوسعه أن يشبه هيمنجواي في تلمس لحم الواقع بالحانات وقصور الأغنياء وخنادق المحاربين وأن يجري الحوارات ويعقد الصداقات مع الزعماء ومرتكبي الجرائم الخطرين، على أن يبقى مثله الأعلى وليم فوكنر.
لم يترك ماركيز الصحافة إلا بعد أن منحها وظيفة أخيرة، عندما اخترع الصحافي المسن الذي روى حكايات غانياته الحزينات. لم تخرج من قلبه رواية كاواباتا ‘الجميلات النائمات’ منذ قرأها للمرة الأولى وشاء ألا يودع الدنيا دون أن ينسخها، وهو يعرف أن اتهامات اللصوصية لن تطارده، لأنه ماركيز!
وهذا ما كان؛ لم يجد القراء شيئًا في أن يزين ثري قصره الفخم بنافذة يابانية من زجاج ملون. ومن لا يعجبه ذلك يستطيع أن يتفادى النظر إلى تلك النافذة بالذات، وستجد عيناه في القصر الكثير الذي تتأمله.
ترك ماركيز الكثير الذي نتأمله، ويمكننا ألا نحب ‘حكايات غانياتي الحزينات’ أو نحبها، ونستطيع أن نصدق أو لا نصدق أن ماركيز كتب رسالته الوداعية التي ظلت تهب من صفحات الصحف والمواقع الإلكترونية كلما تواترت أخبار عن تدهور صحته، لكن الأحمق فقط يستطيع رفض دعوتها للحب.
ويبقى أن الموت النهائي المعلن لماركيز، قد يكون مؤلمًا للكثيرين من محبيه، لكن المؤكد أن موته السابق، غير المعلن كان يؤلمه هو، عندما كان يستعيد ذاكرته للحظات ويعرف أنه ماركيز، الرجل الذي احتفى بالذاكرة في كل ما كتب.
استراح الرجل، لكن الكاتب سيعيش طويلاً، طويلاً جدًا سيعيش.
‘ كاتب مصري