في الوقت الحالي يبدو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إما غير مستوعب لكل تقلبات العلاقات الفرنسية الجزائرية وتناقضاتها، وإما مستوعب لكن غير راغب في التعاطي معها بما تتطلبه من خصوصية وصداع.
أحد أبرز الإشكالات هنا، عدم فهم ماكرون مقاربة النظام الجزائري للعلاقات الثنائية. أو فهمه لهذه المقاربة لكنه يرغب في التنصل منها وفرض واقع جديد على معادلة هذه العلاقات. في الحالتين هي مشكلة.
يخوض ماكرون معركة صعود جبال العلاقات الجزائرية الفرنسية بثقة زائدة متسلّحا بكونه بريئا من جرائم آبائه وأجداده الاستعمارية في الجزائر. ولعله اقتنع بأن ذلك يكفيه لتحقيق ما عجز عنه الرؤساء الفرنسيون السابقون والتغلب على العوائق التي حالت دون خروج العلاقات مع الجزائر إلى بر الأمان وإلى التطبيع الخالي من الشحناء والعواطف.
يبدو أيضا أن ماكرون واثق أكثر من اللازم في أن القرارات الجريئة التي يتخذها حيال الجزائر في موضوع الاستعمار والذاكرة التاريخية، كافية لفرض منطقه وتخليص العلاقات مع الجزائر من مآزقها الكثيرة والمتكررة. وربما يعتقد أن هذه القرارات، وآخرها الاعتراف رسميا بأن فرنسا أعدمت القائد العربي بن مهيدي، أحد أبرز رموز حركة المقاومة وثورة التحرير الجزائريتين بعد أكثر من ستين سنة من الإنكار، ستدفع الجزائر إلى مراجعة تصلبها في اتجاه يفيد العلاقات الثنائية بين البلدين.
يعتمد ماكرون منذ البداية منطق الجرأة التي قد تسبب الصدمة. كانت البداية في 2017 باعترافه الجريء أثناء زيارة للجزائر، وهو مرشح للانتخابات الرئاسية، بأن الاستعمار الفرنسي كان جريمة ضد الإنسانية. لكنه يبدو اليوم مصمما على المضي في هذا المنطق دون انتظار الجزائر الرسمية.
يكون هذا المنطق مثمرا لو أن الأمر يتعلق بعلاقات فرنسا مع أيّ دولة أخرى من مستعمراتها السابقة. مع الجزائر الوضع مختلف وشديد التعقيد. هذا ما لا يبدو أن ماكرون فهمه أو يريد استيعابه. هذا الجهل، أو العناد إذا كان ماكرون يتعمد البقاء في هذه الدائرة، أبقاه يراوح مكانه منذ 2017 يمضي خطوة إلى الأمام واثنتين إلى الوراء، أو خطوة إلى الوراء وأخرى إلى الأمام. مثال ذلك إلقاؤه الأسبوع الماضي خطابا في البرلمان المغربي لم يخلُ من التلميح السلبي تجاه الجزائر، ثم إعلانه بعد 48 ساعة اعتراف فرنسا الرسمية بمسؤوليتها في قتل الشهيد بن مهيدي وهو أسير لديها.
من الصعب الاعتقاد أن ماكرون غير مُلمٍّ بتعقيدات العلاقات الجزائرية الفرنسية وتحدياتها. ومن الصعب كذلك الاعتقاد أنه فاته أن تلميحاته أمام البرلمان المغربي وإعلانه في موضوع بن مهيدي لا يكفّر أحدهما عن الآخر، ولا يكمّل أحدهما الآخر في نظر الجزائر الرسمية. الأرجح أنه محبط وقرر العمل بمفرده لأن النظام الجزائري لا يقدم تنازلات وعندما يفعل تكون تنازلات شكلية وتكتيكية.
يحتاج ماكرون إلى أن يفهم، وإنْ فهم أن يتقبل، الذهنية الجزائرية عندما تتعاطى مع فرنسا. آنذاك يدرك أن النظام الجزائري قد يكون غير متفوق في البناء، لكنه بارع في الهدم
من سوء حظ ماكرون أنه وصل إلى الرئاسة في فرنسا بالتزامن مع ارتفاع ملحوظ في منسوب المشاعر الوطنية في الجزائر عموما واشتغال النظام الجزائري بقوة في هذا الاتجاه. ومحرك المشاعر الوطنية عند الجزائريين وثيق الصلة بفرنسا وماضيها الاستعماري في الجزائر.
لقد تورط ماكرون مع النظام الجزائري منذ البداية، لكن ورطته تعمَّقت وأصبحت غير قابلة للإصلاح بعد تبنّيه رسميا مخطط الحكم الذاتي في الصحراء الغربية الذي يحاول المغرب فرضه.
آخر فصول ورطة ماكرون خطابه في البرلمان المغربي الذي، عدا موضوع الصحراء الغربية، تضمن إساءة وقحة لمآسي الفلسطينيين أمام كتائب من البرلمانيين لم تتوقف عن التصفيق له بحماس كبير. كانت تلك «خطيئة» لو أن ماكرون ينتظر بعدها من النظام الجزائري أن يعامله كأن شيئا لم يحدث، فهو فعلا في حاجة إلى مراجعة كل ما تعلمه عن الجزائر.
يحتاج ماكرون إلى أن يفهم، وإنْ فهم أن يتقبل، الذهنية الجزائرية عندما تتعاطى مع فرنسا. آنذاك يدرك أن النظام الجزائري قد يكون غير متفوق في البناء، لكنه بارع في الهدم. والهدم يعني وضع العصي في الدواليب بأكثر من طريقة. فهذا النظام يعرف كيف يجعل خصمه يلعن الظروف التي اضطرته للتعامل معه.
بعد «خطيئة» البرلمان المغربي على فرنسا أن تتوقع أن تحركاتها ومصالحها، في الجزائر وفي المنطقة، ستفقد من حيويتها وتعاني من بيروقراطية وعراقيل وعصّي في الدواليب على يد النظام الجزائري. بالتأكيد لن تُنسف هذه المصالح تماما لأن الكثير من المنتسبين للنظام الجزائري يحتاجون إلى فرنسا وبعضهم مرتبطون بها عضويا، لكنها ستدفع ثمنا ما.
ارتباك ماكرون أمام الحساسية الجزائرية، بغض النظر عن أنها في محلها أو لا، قاده إلى الفخ الحالي. فعلاقات فرنسا مع الجزائر ثلاثية الأضلاع تتضمن المغرب. وعلاقاتها مع المغرب ثلاثية الأضلاع أيضا تتضمن الجزائر. لكن طيلة رئاسة ماكرون ظلت العلاقات الفرنسية جيدة مع الجزائر على حساب المغرب، أو جيدة مع المغرب على حساب الجزائر. لم يوفق ماكرون في تحقيق توازن إيجابي إلا في فترات محدودة جدا وقصيرة جدا. وكانت نتيجة ذلك أنه لم يُرضِ الجزائر ولم ينل شيئا من المغرب. لهذا لا أحد يستطيع الجزم بأن الدفء الحالي مع المغرب سيستمر طويلا، أو أن الجفاء الحالي مع الجزائر أبدي. هناك استثناء قد يُحدث تغييرا هذه المرة يكمن في أن اندفاع ماكرون نحو المغرب غالبا شجعته الظروف الإقليمية، المأساة الفلسطينية تحديدا، ووجود جهات نافذة في فرنسا أرادت مكافأة المغرب على مضيه في مزيد من التطبيع مع إسرائيل رغم ما ترتكبه من إبادة في غزة.
كان على ماكرون أن يتساءل هل يستحق الأمر عناء المغامرة، لأن المغرب لا يكفي وحده لتعزيز المصالح الفرنسية في المغرب العربي والساحل الإفريقي كما قد تتوهم باريس، مثلما لا تكفي الجزائر وحدها.
التساؤل يقود إلى إدراك أن الجزائر يمكن تغييبها لكن لا يمكن إنجاز شيء ذي جدوى من دونها. وهنا نعود إلى موضوع البناء والهدم.
كاتب صحافي جزائري