ماكرون والنزول من هذه الشجرة العالية

حجم الخط
17

حرية المعتقد واحترامه ليست مزحة.
حق الحياة ليس لعبة.
حرية التعبير ليست مطلقة العنان.
بتفصيل أكبر وبمتابعة لما يجري في فرنسا هذه الأيام يمكن قول الآتي:
لم يكن حكيما ولا مناسبا ما أطلقه الرئيس ماكرون من اتهامات ضد الإسلام، وليس بعض المسلمين، فقد كان فيه من الجهل المتعمد وسوء التقدير والتعميم الظالم الشيء الكثير. لقد نصّب نفسه مُقيّما لدين يتبعه زهاء المليار ونصف من سكان هذا الكوكب بكثير من الخفة، وحتى الاستخفاف، دون مراعاة لكرامات هؤلاء. عندما يقول ما قاله ماكرون باحث في الأديان في ندوة علمية شيء، وعندما يقوله رئيس دولة كبرى شيء آخر تماما، خاصة عندما يلحقه بإجراءات وقرارات، التعسف فيها والتضليل ليس بقليل.
القتلُ الشنيع للمعلم الفرنسي الذي عرض الرسوم المسيئة للرسول الكريم على تلامذته عمل إرهابي وإجرامي يجب إدانته والتنديد به بلا تردد أو تحفظ. كان بالامكان التعامل مع ما قام به بالدفع بالتي هي أحسن في كنف القانون والسلمية عبر عريضة أو وقفة احتجاجية أو حتى تشكيل وفد من الأولياء للقاء به والنقاش معه، أما أن «يتطوّع» أحدهم ليزهق روحه في لحظة غضب وهيجان فذاك مما لا يجوز ولا يُـقبل، إنسانيا ودينيا، ولا يمكن الدفاع عنه أو تبريره، فما بالك بتأييده أو مباركته فتلك جريمة تضاف إلى الجريمة الأولى.
حرية التعبير من حريات الإنسان الأساسية، ومن أجلها ضحى الآلاف لكنها وككل الحريات ليست مطلقة بلا ضوابط. وحتى وإن لم تكن مثل هذه الضوابط مقترنة نصا بهذه الحرية في المواثيق الدولية أو النصوص الدستورية، فإن هناك من الموانع القانونية ما تحد منها في سياقات مختلفة. لا يمكن التحجج مثلا بحرية التعبير عندما تدعو إلى العنف أو الإرهاب أو نبذ عرق من الأعراق أو دين من الأديان أو الحث على الكراهية أو الحط من قيمة أي انتماء ديني أو مذهبي أو وطني أو مناطقي أو استفزاز أصاحبه أو إهانتهم أو غير ذلك. كل ذلك لا يسمى حرية تعبير، ولا يجب التعسف بإدراجه على أنه كذلك، وهنا بالتحديد توضع قضية الرسوم المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

بدّد ماكرون في أيام قليلة الكثير مما بناه أسلافه من عهد الجنرال ديغول إلى الرئيس جاك شيراك من ود وتقدير لفرنسا ومواقفها في عديد الملفات

ما زاد الأمر سوءا أن الاصطفاف الحاد الذي تعيشه المنطقة العربية في السنوات الماضية جعلت البعض يُخضع كل ما سبق في سياق هذا الاصطفاف تحديدا. لقد جرى وضع استهجان ما قامت به فرنسا في سياق الموالاة لتركيا والإخوان المسلمين وتيارات التطرف الديني، في حين جرى وُضع تفهم ما قاله وأقدم عليه ماكرون في سياق التنوير ومناهضة الإسلام السياسي والتطرف. مثل هذا التصنيف لا يمكن اعتباره سوى تسطيح وتتفيه لقضايا كبرى، فضلا عن أنه لا يخرج في النهاية عن وضع قضايا خطيرة في سياق ظرفي من المناكفة السياسية.
ومثلما أبانت هذه الأزمة عن أصوات فرنسية فكرية وسياسية شجاعة عبّرت عن تحفظها على هذا النهج الذي أدخل فيه ماكرون البلاد فإنها أبانت أيضا في المقابل عن أصوات عربية دفعها كرهها للإسلاميين، وهذا حقها المشروع، إلى الوقوف مع من يتجنى على الإسلام كدين وحضارة وهذا خلط قاتل.
في فرنسا وجدنا شخصيات مثل الصحافي والسياسي الفرنسي جان ليك ميلنشون كانت له من الشجاعة والجرأة أن يدعو ماكرون إلى التوقف عن «اللعب بالنار» و«الكف عن الاشارة بإصبع الاتهام إلى كل المسلمين في بلاده» حرصا على العيش المشترك وتقبل الآخر وإعلاء قيام الجمهورية الحقيقية لتجنب تعريض المسلمين إلى ما سبق ما تعرض له اليهود والمسيحيون في أوروبا من اضطهاد وقهر. في المقابل، خرجت أصوات عربية، بالتحديد من السعودية والإمارات ومصر، تؤيد ماكرون وتثني على كل ما فعله، معتبرة أن كل انتقاد له هو خدمة لأردوغان وقطر والإخوان المسلمين في مفارقة عجيبة ليس لها من تفسير سوى أنك إن تمسكت بنفس النظارات في النظر إلى كل شيء، مهما اختلفت الزوايا، دون أي تعديل أو مراجعة، فقد تصاب في النهاية بمزيد من ضعف النظر وحتى الحول.
لقد بدّد ماكرون في أيام قليلة الكثير مما بناه أسلافه من عهد الجنرال ديغول إلى الرئيس جاك شيراك من ود وتقدير لفرنسا ومواقفها في عديد الملفات، وهو إذ يفعل ذلك لحسابات انتخابية انتهازية إنما يعبث بمكانة بلاده بأكملها خاصة مع هذه الحملة لمقاطعة البضائع الفرنسية والتي تظل، رغم كل شيء، شكلا من أشكال التعبير الشعبي السلمي. حتى هذه، لم تستسغها الدوائر الرسمية الفرنسية واعتبرتها نابعة من «أقلية متطرفة» وتناغمت معها نفس الأصوات الخليجية إياها.
ومع أن ماكرون قال في تغريدته باللغة العربية، حتى يخاطب القوم بلغتهم، أنه لن يتراجع أبدا إلا أن من مصلحته أن يسعى أن ينزل تدريجيا من الشجرة العالية التي تسلقها لأن لا مصلحة لفرنسا، ولا للعرب والمسلمين، في بقاء مثل هذا الجو المشحون التي لا أحد يدري كيف يمكن أن يتطور وهل يمكن أن ينزلق أكثر.

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    سقوط ترامب المتوقع سيساعد بسقوط ماكرون!
    ماكرون خاطر بالسِلم الأهلي لبلاده!!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول محفوظ - الجزائر:

    …..نعم صحيح تسلق شجرة صنوبر والشجرة مغروسة على جبل, ولا يلوم إلا نفسه…..أمره بنشر الإساءات على جدران البنيات كان غباء الصبيان….لو قال أن أمر الرسومات قام به شخص ما…..أما نشرها على البيانات, هنا ذهب بعيدا وأتمنى أن يبقى على الشجرة إلا أن يسقط مغشيا عليه…أذكر أن كل رؤوساء فرنسا شتموا العرب والمسلمين في حملاتهم الإنتخابية…ولكن الحالي تجاوز الحدود……

  3. يقول ماغون:

    يكفي انتصارا أن اللغة العربية؛ التي أذلت ماكرون؛ قد فرضت نفسها، كما أنها يومها كانت أسرع انتشارا عبر تويتر ومن فرنسا التي طالما حاربتها.

  4. يقول فتحي يحيى عبدالله:

    في تقديري لو لم يكن ماكرون متأكد من أن ردت فعل الأجهزة الرسمية العربية و الإسلامية وحتى الشعبية ستكون ضعيفة لما أقدم على هذه الإساءة إلى أعظم و أشرف واقدس رمز للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن من يهن يسهل الهوان عليه ما لميت بجرح اِلام

  5. يقول Zaid:

    “فقد كان فيه من الجهل المتعمد…”
    بل عن سابق علم واصرار وكان هذا نهجه مدعوماً بتأريخ استعماري بربري وحشي قاتل
    يحتفظ بعظام من قتلوهم للتشفي ويجربون غازات سامه على الفقراء.

    هل يجوز الدخول الى بيت اذا كان الباب مفتوحاً بحجة حرية الحركه!.
    الشعور بالنقص والدونيه تدفع البعض للوقوف مع فرنسا، مخلوقات تعشق العبوديه.

  6. يقول أبو حمزة:

    بسم الله الرحمن الرحيم. إذا أردت أن تعرف حال المسلمين انظر إلى الأقصى هو مرآة لكرامة المسلمين نعيش حاليا في دوائر ذل من الاستبداد إلى التآمر الإقليمي إلى لعب الإمبراطوريات وهذا بسبب الحركة الصهيونية إن تم اجتياح إسرائيل واغتنام السلاح النووي من يدها لن تجد لا عاقل ولا مجنون يجرؤ على الإساءة للإسلام.

  7. يقول أبو حمزة:

    أرني مسلم مبتسم أو مسرور هذا الذل والهم والحزن وضيق الصدر وتراكم الديون على الدول والأفراد والشح في المياه والإهانات والتطبيع كل هذه المصائب تهدف لسلخ المسلمين عن دينهم والدعوة للارتداد حسب الدكتور عبد الله النفيسي المستهدف هو الشباب الذي تخافه إسرائيل ولن يشهد مسلم يوم عز ما دامت إسرائيل قائمة.

  8. يقول أبو حمزة:

    ورشة عمل من 200 مهندس وخبراء طرق وجغرافيا عسكرية ورياضيات بإمكانهم وضع خطة محكمة لاجتياح إسرائيل وإيقاف هذا الذل بعدها لن تجد مسلم مكتئب.

  9. يقول عاصم:

    إلّا تنصروه فقد نصره الله
    أي شخص يسيء لرسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم لا يلوم إلا نفسه، لو ما كانت عقوبته على أيدينا المسلمين راح تكون عقوبته من عند رب المسلمين في الدنيا قبل الآخرة، رسولنا خط أحمر ونار وجحيم على كل واحد بيتعدى عليه، الشغلة مش شغلة غضب لحظي زي ما مفكرين

    1. يقول سنتيك اليونان:

      الى عاصم
      التقيت بمحرر يعمل في مجلة شارلي هبدو. واعلمني زادت مبيعات وارباح المجلة نتيجة الاحتجاجات
      ال

  10. يقول S.S.Abdullah:

    يا سي محمد كريشان، أنا أختلف معك تماماً مع زاوية رؤية مقال عنوانك (ماكرون والنزول من هذه الشجرة العالية)، والأهم هو السبب، أو لماذا؟!

    إذا كان الفرنسي أو الأوربي منافق، ويتحرش أو يغتصب حتى محارمه بلا أخلاق،

    لماذا يجب أن يكون (مثله) غير الفرنسي، هذا هو ما خطر لي،

    بعد قراءة تفاصيل رسم عنوان (أردوغان يظهر على غلاف العدد القادم من مجلة شارلي إيبدو)، والأهم هو السبب،

    أو لماذا شارك الرؤساء العرب والمسلمين في مسيرة مع الرئيس الفرنسي (هولاند) في عام 2015،

    والآن لا يجرؤ أي رئيس، إلّا أن يقف موقف الرئيس التركي في عام 2020 من الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون)،

    فما الفرق بين ذاك السياق وهذا السياق، سبحان مُغيّر أحوال زعماء الدول الإسلامية،

    وبقية ترتيب النظام العالمي الجديد، حسب رأي (جورج بوش الأب) في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991،

    لأن السؤال المنطقي والموضوعي، لماذا مشاهير هوليوود من الغرب، مواقفهم تختلف عن مواقف كل دلوعة أمه، مثل (دونالد ترامب – أمريكا) أو (إيمانويل ماكرون – فرنسا) أو (مودي – الهند) أو (نتنياهو – الكيان الصهيوني) في واحات الديمقراطية،

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية