باريس: أشعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ببضع كلمات علاقة كان يسعى لتهدئتها مع الجزائر بدعمه الصريح لرئيس “شجاع”، فأجج بذلك المعارضة السياسية والإعلام الجزائري ضده.
وصرح ماكرون لمجلة “جون أفريك” أنه سيبذل كل ما في وسعه “لمساعدة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون” الذي وصفه بأنه “شجاع” في الوقت الذي لا يزال يلقى نظيره الجزائري معارضة كبيرة في الشارع وفي صناديق الاقتراع.
وسرعان ما صدرت ردود فعل منددة من أحزاب المعارضة وناشطين في الحراك الجزائري متهمة ماكرون بـ”التدخل” في شؤون البلاد وباتباع سياسية “نيوكولونيالية” وبأنه يظن نفسه مخولا لتوزيع شهادات شرعية.
وفي رسالة شديدة اللهجة نشرها على حسابه على فيسبوك، توجه المعارض كريم طابو الشخصية الرئيسية في الحراك الشعبي، إلى ماكرون مباشرة متسائلاً “باسم أي قيم وأي أخلاق وأي مبدأ ديمقراطي يمكنكم تبرير دعمكم لسلطة متغطرسة تعمد إلى سجن صحافيين وتنتهك الحريات العامة وتخضع القضاء لإملاءاتها”.
أدى الحراك الجزائري الذي بدأ في 22 فبراير/شباط 2019 إلى استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي بقي في الحكم 20 عاما، ويطالب بتغيير جذري في النظام القائم منذ الاستقلال في 1962. وحتى الآن لم يحقق أي نتيجة.
وتستهدف السلطات الجزائرية يوميا منذ أشهر ناشطين ومعارضين سياسيين وصحافيين ومدونين وتكثف حملات التوقيف والملاحقات القضائية والإدانات لمنع استئناف نشاط الحراك الذي علق بسبب أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد.
ولأسباب تاريخية في العلاقة مع الجزائر، تحرص الدبلوماسية الفرنسية على انتقاء كلماتها وتتوخى الدقة في تصريحاتها تجنبا لإثارة حساسيات مع المستعمرة السابقة لحد إظهار حذر شديد في مجال حقوق الإنسان.
وأعلن حسني عبيدي مدير مركز الدراسات والأبحاث في العالم العربي وحوض المتوسط في جنيف أنه في العلاقة مع الجزائر “يجب حسن اختيار الكلمات. وللأسف أساء الرئيس ماكرون اختيارها وكانت تصريحاته خرقاء وجاءت بنتائج عكسية”.
وأضاف “يساورنا انطباع بأنه لا يعترف بما يحصل وأنه يدعم سلطة فاقدة للشرعية شعبيا ويقلل من أهمية الحراك”.
وفي الكواليس، ينفي مقرب من الرئيس الفرنسي أي موقف ضد الحراك – ويقول “إنه شديد الاهتمام بما يحصل في الجزائر” – ويؤكد قبل كل شيء على “روابط الصداقة مع الشعب الجزائري ورئيسه” في خضم الأزمة الصحية.
ويريد البعض أن في ذلك يد فرنسا الممدودة للرئيس تبون في مواجهة قسم من الهرمية العسكرية.
وتبون الذي انتخب في كانون الأول/ديسمبر 2019، يواجه انعدام ثقة شعبيا تأكدت بالمقاطعة التاريخية خلال الاستفتاء حول الدستور في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، الذي يعد مشروعه الرئيسي. وتشهد الجزائر شغورا في السلطة منذ شهر بعد ادخال تبون المستشفى في ألمانيا لإصابته بوباء كوفيد-19.
ويكشف محللون في باريس كما في الجزائر انه “ليس للجميع مصلحة في أن ينجح” وهو ليس في منأى من “أن يعزله العسكر”.
أيقظ غياب الرئيس الجزائري المطول عبد المجيد تبون لدى جزء كبير من الجزائريين ووسائل الإعلام، شبح شغور السلطة لدى دخول الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة المستشفى في الخارج إثر إصابته بجلطة دماغية في 2013.
وقال إبراهيم اومنصور الباحث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس “يعيد كل ذلك إلى الأذهان الإذلال في عهد بوتفليقة وولايته الرابعة ودعم فرنسا له”.
وأضاف “دعم تبون في الوقت الذي توجد فيه شكوك حول مستقبل ولايته الرئاسية مجازفة بحد ذاتها”.
وأوضح أنه في نهاية المطاف من خلال دعمها الجزائر، تحرص فرنسا أولا على الحفاظ على مصالحها بدءا بالتعاون الأمني في منطقة الساحل.
وقال مراقب فرنسي إن “التدخل في ملف حقوق الإنسان يعني الاتجاه مباشرة إلى الكارثة السياسية والدبلوماسية. انهم في غاية الحساسية في هذا المجال”.
في المقابل، انتقد ماكرون في تصريحاته قمع الحراك إذ قال “هناك أيضا أمور لا تدخل في معاييرنا ونرغب في أن نراها تتغير”، لكن يبدو أن هذا الموقف مر مرور الكرام.
بنى النظام الجزائري شرعيته على المشاعر المعادية لفرنسا والتي لا تزال في الواجهة.
ولدى سؤاله حول “تحدي الذاكرة” الذي تطرحه حرب الجزائر، اكد إيمانويل ماكرون أنّ “فرنسا قامت بالكثير من البوادر” وأنّ المهم يكمن في “القيام بعمل تاريخي ومصالحة الذاكرتين” وليس “تقديم الاعتذارات”.
وأضاف “في الواقع، حبسنا أنفسنا” ضمن نوع من التأرجح “بين موقفين: الاعتذار والتندم من جهة، والإنكار والاعتزاز من جهة أخرى. ما أرغب فيه أنا، هو أن أكون مع الحقيقة والمصالحة، والرئيس تبون أعرب عن رغبته في القيام بالشيء نفسه”.
وخلص مسؤول حكومي فرنسي إلى القول “حتى وان لزمنا الصمت سيفسر ذلك بطريقة ما! مع الجزائر تختصر العلاقة دائما بمواقف تشوبها ظلال وغموض … ايجاد الموقف المناسب ليس بالأمر السهل”.
(أ ف ب)
الرئيس الفرنسي ماكرون يدعم نفسه أولا لإنه في وقت لا يسمح له بالقيل والقال لأنه في أزمة حقيقية