‘لا تكشف الردود على تهديدات مقاطعة اسرائيل عن الفروق بين المواقف بين اليمين واليسار فقط بل عن الاختلاف الجوهري بين منظومات الاستعمال لدى الطرفين. فهو فرق نفسي وجودي لا سبيل للتقريب بينه مثل لغتين دون أي قاسم لغوي مشترك. فمن جهة يغلي في معسكر اليسار ذعر من العقوبات التي فرضت الى الآن ومن تلك التي قد تأتي. ودون أن نقلل من اهمية صورة النظر المقلقة اليوم لاسرائيل المحتلة في نظر العالم الغربي، ليس من الداحض أن نقول إن اليسار يشغل نفسه بتعظيم التهديدات وبالترويج القوي لها: فاكثر الاسرائيليين حتى من اليساريين لم يسمعوا بصندوق التقاعد الهولندي بي.جي.جي.إم أو باتفاق هورايزون 2020 قبل أن يصبحا رمزين للتنديد باسرائيل. ‘ينبع هذا التضخيم ايضا من الحياء العميق الذي يشعر به اليسار الاسرائيلي الذي يرى نفسه جزءا من العالم الغربي الليبرالي مع قيم الحرية فيه من حكم اليمين الانفصالي، لكنه يخشى في الاساس من انخفاض مستوى العيش. وليس من العجب أن يمثل مؤيدي الاتفاق مع الفلسطينيين الآن في لافتات الشوارع 100 من رجال الاعمال الرواد في الجهاز الاقتصادي. فالخوف من المس بنعيم العيش هو من نصيب الشبعان. ومن الجهة الاخرى يحاول اليمين وفي مقدمته كبار المسؤولين في حكومة اسرائيل مضاءلة التهديدات والغاء اهميتها. وهم لا يفعلون ذلك فقط لافشال التفاوض والامتناع عن اتفاق فهذه نتائج التصور العام اليميني لا اسبابه. ويرى اليمين أن تهديدات اسرائيل بالمقاطعة ليست اكثر من حلقة اخرى هامشية جدا في تاريخ معاد للسامية قديم. إن التهديد الحقيقي الذي يغطي اسرائيل والشعب اليهودي بعامة هو التهديد بالابادة بصورة حرفية حيث إن المقاطعة الاقتصادية ثانوية فقط بالنسبة اليه. برغم اظهار القوة والسياسة العنيفة التي هي اقرار حقائق على الارض التي بلغت ذروتها في مشروع الاستيطان، يعمل جهاز الاستعمال اليميني صدورا عن قوة الخوف من الابادة الدائم والخوف من الموت. ويتخلى اليمين مسبقا عن الطموح الى اخلاق أو الى عيش في دولة ليبرالية زاهرة كالدول التي تهدد باقصاء اسرائيل، لانه يرى أن اسرائيل والشعب اليهودي ما زالا مشغولين بحرب لاجل الحياة نفسها وهي تملي وجودا بقائيا مقلصا وتسوغ وقت الضرورة ايضا استعمال العنف والعدوان على القانون الدولي. ولا يرى اليمين أن اسرائيل عضو ذات شرعية ومساوية في الحقوق في أسرة الشعوب بل يراها دولة أقلية مطاردة مظلومة يجب الدفاع عنها بكل ثمن حتى لو كان كسرة الخبز. فحرب البقاء هي من نصيب الجائع. وفي هذا السياق يثير الاهتمام رد وزير الدفاع موشيه يعلون على تهديدات المقاطعة في مؤتمر الامن في ميونيخ. قال يعلون إنه يأمل أن تحرز تسوية مع الفلسطينيين لكنه ذكر قوله: ‘سندبر امورنا وإن لم يوجد اتفاق ايضا’. إن يعلون الذي كان ينتمي في الماضي الى حزب العمل لكنه غير رأيه واتجه الى اليمين على إثر اتفاق اوسلو، يمثل اسرائيليين كثيرين ليسوا على الخصوص من اولئك الذين يعدون الشركاء الطبيعيين في حلف المظلومين العقائدي والاجتماعي الذي جاء باليمين الى الحكم في اسرائيل لاول مرة. إن الحافلات المتفجرة في قلب القدس وتل ابيب وحيفا، والجثث المهشمة وأنهار الدم صدعت في نظر اسرائيليين كثيرين الحلم المثالي بانهاء الاحتلال والحياة الطيبة في دولة اسرائيل والذي انتخبوا لاجله اسحق رابين في 1992 (في ضمن اسباب اخرى). إن كابوس اليمين قد أصبح له جسم وتم تفضيل ‘ادارة الصراع’ برغم كلفتها الباهظة وعيبها الاخلاقي على محاولات حله. وبدت محاولات البقاء اكثر منطقا من الأمل في تحسين العيش فتغلب الجوع على الشبع. لم تفهم كرستيان امنفور لماذا يلوح لها نفتالي بينيت بورقة نقد عمرها ألفا سنة بدل أن يجيب عن اسئلتها عن البناء في المستوطنات. ومن المؤكد أن جون كيري لا يفهم لماذا لا ينقض الاسرائيليون على مبادرته السلمية. إذهب وبين لهم مبلغ صعوبة أن تكون يهوديا يمينيا.