في مقاربته حول موضوع الأكراد، أثبت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بأنه مجدد – سواء في الانفتاح على الأكراد أو في اتباع القبضة الحديدية ضدهم، لأنه يعتبر الفضاء الكردي فضاء بدون حدود، ونشاطاته تتجاوز حدود تركيا. حسب رأيه، ثمة تآزر بين جميع الأجزاء، وهي تعمل كالأواني المستطرقة، لذلك يجب التعامل معها وفقاً لذلك. نتيجة لهذه الرؤية، يمكن التمييز بين ثلاثة استراتيجيات متشابكة ومتغيرة حسب الإحساس بالتهديد أو ظهور الفرصة.
· عملية سلمية مع الأكراد في تركيا، التي تحولت إلى حرب ضروس منذ بداية 2016.
· قوة ناعمة في كردستان العراق، التي تطورت مع مرور الوقت إلى علاقة استراتيجية، حيث وصلت التجارة المتبادلة إلى 14 مليار دولار بالمتوسط في السنة.
· التدخل العسكري في كردستان السورية، الذي بدأ في 2016 ويستمر حتى الآن.
في الـ 13 سنة الأولى لولايته، اتبع أردوغان سياسة متصالحة مع الأكراد في تركيا (الذين يشكلون نحو 20 في المئة من إجمالي سكان الدولة)، التي كانت تنص على عملية سلمية مع قيادة الأكراد، وضمن ذلك منظمة العصابات، وحزب العمال الكردستاني، و”بي.كي.كي”. لماذا تصرف هكذا في البداية وما الذي جعله يغير سياسته ليستخدم القبضة الحديدية ضدهم بعد ذلك؟ حسب مقاربته التصالحية الأولى، كان هناك خمسة دوافع أساسية: الدافع الأول والأهم هو التطلع إلى تحييد الجيش عن السياسة. فمن أجل إضعاف الجيش، كان عليه تهدئة موضوع الأكراد، ومن ثم سحب البساط من تحت أقدامه؛ الدافع المهم الآخر هو عرض صورة على الاتحاد الأوروبي تبين نظاماً ديمقراطياً ليبرالياً يعطي الحقوق للأقليات في محاولة لضمه إلى الاتحاد؛ أما الدافع الثالث فهو الأمل في دعم الأكراد له في حملته الانتخابية؛ يأتي الدافع الرابع برغبته في تعزيز الاقتصاد على خلفية النفقات الكبيرة المقرونة بتعزيز الجيش وتمويل الحروب ضد الـ “بي.كي.كي”؛ والدافع الخامس هو التطلع إلى الدفع قدماً بالعلاقات مع الإقليم الكردي في العراق. منذ احتلال العراق في العام 2003 حولت تركيا هذا الإقليم إلى منطقة نفوذ لها. وخلال ذلك، استخدمت القيادة الكردية العراقية للدفع قدماً بمصالح انتخابية على الجبهة الكردية الداخلية.
في العام 2006 بدأت تركيا بما سمي “عملية أوسلو السرية” مع “بي.كي.كي” التي استمرت حتى العام 2011. في موازاة ذلك، في بداية العام 2009، بدأت أيضاً عملية سلمية علنية استمرت حتى العام 2015 والتي انطوت على تسهيلات في الثقافة والاقتصاد، غير مسبوقة بالنسبة للأكراد حتى ذلك الحين. وعلى هذه الخلفية، تعزز الحزب الكردي “الشعوب الديمقراطي” (اتش.دي.بي). وفي العام 2011 تم تسريب موضوع المحادثات السرية. ومنذ ذلك الحين، للمفارقة، تم تسريع العملية بشكل علني أيضاً مع حزب العمل الكردستاني. من مقره في السجن أعلن زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، في 21 آذار 2013 عن وقف إطلاق النار بشكل أحادي الجانب، وطالب المقاتلين في الحزب بالانسحاب من تركيا إلى العراق. من أرسله أردوغان للتوسط في هذه المرحلة في المحادثات هو رئيس حزب “الشعوب الديمقراطي” صلاح الدين دميرتاش.
مع ذلك، منذ بداية 2015 فما بعد، حدث تدهور في العلاقات حيث كانت أسباب ذلك الرئيسية “النجاح الزائد” للأكراد الذين بدأوا في تشكيل تهديد على أردوغان. ترشح دميرتاش لمنصب الرئيس أمام أردوغان في آب 2014، وفاز بـ 10 في المئة من الأصوات. في الحقيقة، هذه نسبة هامشية مقارنة مع ما حصل عليه أردوغان الذي فاز بأكثر من 50 في المئة من الأصوات. ولكن مجرد ترشحه، وصورة دميرتاش الكاريزماتية كـ”أوباما الأكراد”، أثارت تخوفات كبيرة لدى الزعيم بلا منازع.
إن تعزز مكانة حزب العمال الكردستاني في سوريا كان عاملاً آخر للتدهور. ففي تموز 2014 بدأت هجمات “داعش” في كوباني في سوريا. وهذا تطور شكل انعطافة في عملية تعزز نفوذ حزب العمال الكردستاني في فضاء الأكراد في سوريا: كانت الحرب ضد “داعش” على يد قوات كردية سورية (واي.بي.جي)، التي هي فعلياً فرع من حزب العمال الكردستاني. يشار إلى أن 50 في المئة من المقاتلين كانوا من أعضاء بي.كي.كي، الذين جاؤوا من القواعد في العراق. إن التدخل الأمريكي لصالح الأكراد صب الزيت على نار تخوفات أردوغان.
الشعرة التي قصمت ظهر البعير هي الانتخابات البرلمانية في حزيران 2015. الحزب الحاكم “إي.كي.بي” لم يحقق الأغلبية المطلوبة لتغيير طريقة الحكم من برلمانية إلى رئاسية. ومن “سرق” الأصوات منه هو حزب اتش.دي.بي الكردي، الذي حظي بإنجاز غير مسبوق، 13 في المئة من الأصوات و80 مقعداً في البرلمان. لم تنجح محاولة أردوغان تشكيل تحالف مع هذا الحزب، الأمر الذي دفعه إلى أحضان الحزب الوطني المتطرف ام.اتش.بي.
ثمة عملية كردية أخرى اعتبرت تهديداً كبيراً لتركيا، وهي الاستفتاء على الاستقلال الذي أجري في الإقليم الكردي في العراق عام 2017. لذلك، قام أردوغان منذ العام 2015 بعدة خطوات في أوقات مختلفة ضد الأجزاء الثلاثة من كردستان. في 2016 هاجمت تركيا كل منطقة فيها أكراد، وهو هجوم خلف 6366 قتيلاً، معظمهم من رجال بي.كي.كي. ومنذ ذلك الحين والحزب المدني، وكل الأكراد، مستهدفون. العملية الأشد كانت وضع دميرتاش وآلاف النشطاء الأكراد في السجن. ذريعة ذلك كانت علاقته مع بي.كي.كي، وهي العلاقة التي شجعها أردوغان نفسه في حينه.
في نفس الوقت الجيش التركي هاجم منطقة غرابلوس في سوريا من أجل منع سيطرة واي.بي.جي على الإقليم، ونفذ هجومات أرضية كبيرة أيضاً في 2018 و2019. في موازاة ذلك استمرت تركيا في مهاجمة مواقع بي.كي.كي في الإقليم الكردي في العراق، وأيضاً استمرت في تخريب خطوات لإقليم من أجل الحصول على الاستقلال.
أين فشلت قيادات الأكراد؟
رؤية أساليب عمل المنظمة الكردية الرئيسية في تركيا، حزب الـ بي.كي.كي، التي تأسست في السبعينيات، هي انعكاس لرؤية وأساليب أردوغان. فشبيهاً به، تعتبر المنظمة كل أجزاء كردستان فضاء حياتها. لذلك، يعمل بي.كي.كي أيضاً في جميع الساحات. فقد أقام مواقع في الإقليم الكردي في العراق، وثمة منظمات على شاكلته موجودة في سوريا مثل بي.آي.دي، وفي إيران “بي.جيه.اي.كي”.
عندما نشأت حركة مدنية كردية في تركيا أرادت المشاركة في البرلمان في التسعينيات، طلب حزب بي.كي.كي أن يملي عليها شروطاً أيضاً، ووجدت بينه وبين هذه الحركة منافسة خفية. ربما بضغط من بي.كي.كي لم توافق القيادة المدنية في 2015 على دعم أردوغان والتحالف معه، وهكذا دفعته إلى أحضان الحزب الوطني المتطرف.
ثمة خطأ آخر، وهو أن القيادة العسكرية لـ بي.كي.كي أقامت قواعدها في أوساط السكان المدنيين في جنوب شرق تركيا. وهذا ما حدث عندما هاجم الجيش التركي المنطقة في 2016 و2017 فيما الضرر الأكبر أصاب السكان الأكراد، وخلال ذلك جبي الأرواح وتدمير البيوت وشطب الكثير من إنجازات الحزب الكردي المدني.
إن ترسخ بي.كي.كي في كردستان العراق أدى إلى إقامة نحو 40 قاعدة لتركيا في الإقليم واستمرار الهجوم على حزب العمال الكردستاني، ولكن مع رسالة قوية لقيادة الأكراد في العراق. سياسة بي.كي.كي أدت أيضاً إلى الاحتكاك بين قيادة الإقليم وبي.كي.كي. وثمة فشل آخر لـ بي.كي.كي، وهو الفشل في تقليص ظهوره في إقليم الحكم الذاتي الكردي في سوريا، الذي أدى إلى هجمات تركية شديدة هناك.
هناك مشكلة أخرى واجهها الأكراد، وهي الخارطة الجيوسياسية والتكنولوجية التي تغيرت منذ أن طورت تركيا الطائرات المسيرة ووسائل استخبارية مختلفة، التي لم يكن لدى المنظمات الكردية أي استعداد مناسب ضدها. هكذا تم تقويض المقولة الكردية “ليس للأكراد أصدقاء غير الجبال”. حيث لم يعد بمقدور الجبال الآن أن تشكل حماية أمام المسيرات التركية، التي تهاجم مناطق الأكراد الثلاث بدون إزعاج. إضافة إلى ذلك، أخفقت التنظيمات الكردية في العراق وتركيا وسوريا في التعاون معاً، ووقعت في شرك “فرق تسد” الذي نصبه لها أردوغان. يمكن القول إن الأحزاب والتنظيمات الكردية لم تنجح في إظهار المرونة السياسية، وكانت تنقصها المؤهلات الدبلوماسية، وفي المقابل دفعت ثمناً باهظاً.
ميزان الربح والخسارة في الانتخابات الأخيرة
قبل الانتخابات أيار 2023 ثارت تطلعات بأن أردوغان سيزيد هجماته ضد الأكراد في سوريا وفي الأقاليم الكردية الأخرى، كجزء من تنفيذ التهديدات التي وجهها مؤخراً. ولكن لشديد الدهشة، اتبع سياسة معاكسة وقلص الهجمات بشكل ملحوظ في الأقاليم الكردية مقارنة بالسنة الماضية. المنطق الذي استخدمه أردوغان هذه المرة هو رغبته بألا يدفع المصوتين الأكراد إلى أحضان الحزب الكردي.
أما حزب اتش.دي.بي، فقد غير اسمه عشية الانتخابات وانضم لحزب يساري آخر خوفاً من إخراجه خارج القانون، كما حدث سابقاً لأحزاب كردية في ثماني مرات. ولكن رغم أنه أيد المعارضة من الخارج، برئاسة كمال كليتشدار أوغلو، إلا أنه لم يحصل على دعمه في الجولة الثانية عندما أطلق تصريحات قومية متطرفة ضد الأكراد كي يهزم أردوغان. في الجولة الثانية للانتخابات، تحول الأكراد إلى كيس لكمات من قبل الطرفين؛ من جهة، هاجمهم اردوغان والحزب الحاكم ووضعوا رؤساءهم في السجن عشية الانتخابات بتهمة تأييد الإرهاب. ومن جهة أخرى حاولت المعارضة التنصل منهم لكسب أصوات القوميين المتطرفين في تركيا. وعندما عرفت نتائج الانتخابات، أعلن دميرتاش إنهاء نشاطه في الحزب ودعا إلى تشبيب الصفوف وإعادة النظر في طرق عمل الحزب الكردي.
بنظرة مستقبلية، الفوز الذي حققه أردوغان في الجولة الثانية قد يدفعه إلى الاستمرار في العمل على ثلاث جبهات: سيحاول في سوريا التوصل إلى تفاهمات مع الرئيس بشار الأسد من أجل القضاء على الحكم الذاتي للأكراد. وفي العراق سيستمر في نوع من الضم الزاحف. أما تركياً فسيعمل على إضعاف الحزب الكردي الذي عارض حكمه.
عوفره بنجو
نظرة عليا 7/6/2023