أما أننا أمام بلطجة أمريكية، فهذا من المعلوم بالضرورة، وقد كانت السياسة الأمريكية دائما كذلك، تستخدم فوائض القوة الخشنة لتحقيق مصالحها، وبدون مبالاة تذكر، بدواعي الشرعية الدولية، ولا بقواعد السلوك الأخلاقي.
ربما الجديد، أن واشنطن صارت في عزلة متزايدة، تفقد التأثير الكلي في هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها، وتعجز عن إيجاد تحالفات دولية ثابتة، ولذلك تخلع قفازاتها، وتندفع إلى تحطيم كل شيء، وتتصرف بغباوة الفيل في محل الخزف.
وحين يتعلق الأمر بإسرائيل، فلم يعد من فارق ملموس بين واشنطن وتل أبيب، وقد كانتا دائما في حالة اندماج استراتيجي، خصوصا ما بعد عدوان 1967، تديران الحروب معا، وتدبران المؤامرات والتسويات.
وبعد إزالة عائق التحدي المصري بعقد ما يسمى معاهدة السلام، انفسح المجال على أقصى اتساعه لتحطيم ما تبقى من الوضع العربي، وصولا لتحطيم العراق في حرب احتلاله، وبخدمات مباشرة من نظم عربية، قامت على أراضيها قواعد العدوان الأمريكي، وقدمت المال والعون اللوجيستي للغزو الأمريكي، الذي كان بوسعه وقتها استخدام غطاء الأمم المتحدة، وإخضاع مجلس الأمن الدولي لرغباته، وهو ما لم يعد ممكنا الآن بسبب الصعود العسكري والسياسي لروسيا العائدة إلى دور دولي، وبسبب الصعود الاقتصادي الصاروخي الباهر للصين، وعلى نحو ما دلت وتدل عليه الوقائع الجارية لحرب دمار سوريا وإعادة تشكيلها، وهو ما يدفع الولايات المتحدة لإسقاط الأقنعة، والتخلي عن دور “وسيط السلام” المفتعل، والمطابقة العلنية الصريحة بين مصالحها ومصالح الكيان الإسرائيلي، فقد صار النظام الدولي الذي أقيم بعد الحرب العالمية الثانية، وصارت الأمم المتحدة التي حرصت أمريكا على استضافتها فوق أرضها، صار ذلك كله عائقا مرئيا أمام واشنطن، فقد فات زمن الاستقطاب الثنائي الأيديولوجي، ومضى زمن “الأحادية القطبية” التي تمتعت بها واشنطن قليلا عقب الانهيارات الشيوعية، ولم يعد أمام الولايات المتحدة، سوى أن تحطم ما شاركت في إقامته، وتمويله من خزائنها التي صارت أكبر مدين في العالم، ولم يعد مفيدا لواشنطن، استخدام قوتها الناعمة المتراجعة، فلجأت إلى الخشونة والفظاظة والبلطجة المباشرة، وعلى نحو تدرج في رئاسات البيت الأبيض الأخيرة، وصولا إلى حالة ترامب، الذي يتصرف كتلميذ بليد، غاية أمله أن يمسح السبورة، وأن يتوقف عن تلقى الدروس، فلا فرصة لديه في النجاح بامتحان ذي قواعد، ولا حل عنده سوى شطب القواعد كلها، بدءا بحروب التجارة، وإنهاء دور منظماتها وتحالفاتها الاقتصادية، وليس انتهاء بالانسحاب من منظمات الأمم المتحدة، بدعوى تحيزها ضد إسرائيل وأمريكا، وعلى طريقة انسحابات واشنطن من “اليونسكو”، ثم الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان، وعجزها المتزايد عن استصدار قرارات تريدها من مجلس الأمن الدولي، وصراخها الملتاع، مما تسميه تحيزات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبالأغلب الساحق من دولها، ضد ربيبتها إسرائيل، التي يعتبرها ترامب رب نعمته، ويسعى جهده للحصول على رضاها، ورضا “اللوبي الصهيوني” في أمريكا، بأمل أن ينجيه اللوبي من مصير العزل الرئاسي الذي يتهدده.
هذه هى الخلفية العامة التي تنطلق منها تصرفات البلطجة العدوانية الأمريكية، على طريقة قطع تمويل “الأونروا”، الوكالة الأممية لدعم وإغاثة اللاجئين الفلسطينيين، والسعي لشطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين المقر دوليا، ومن قبلها شطب حق عودة القدس المحتلة لشعبها الفلسطيني، وإعلان القدس بكاملها عاصمة موحدة وأبدية لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وهي المنظمة نفسها، التي سبق لواشنطن الاعتراف بها قبل عقود، وشاركتها في التفاوض مع إسرائيل على طريقة أوسلو وما تلاها، لكنها تضيق بها الآن، وتسعى إلى شطب وجودها، بعد نجاح الفلسطينيين في الحصول على صفة دولية في الأمم المتحدة، وانضمام دولة فلسطين ـ التي لم تقم بعد ـ لعشرات المنظمات التابعة للأمم المتحدة، وانضمامها بالذات إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي انضمت إليها 123 دولة، وعارضت أمريكا وجودها منذ البداية، وإن لم تعارض أن تشمل محاكماتها أي أحد، إلا أن يكون أمريكيا أو إسرائيليا، وهو ما بدا جليا في هستيريا جون بولتون مستشار ترامب للأمن القومي، وتهديده الهمجي بعقاب قضاة المحكمة الدولية التي لا تمولها واشنطن بسنت واحد، ومنعهم من دخول أمريكا، ومصادرة أموالهم، بل محاكمة قضاة المحكمة الجنائية، ومعاملتهم كمتهمين وربما كإرهابيين، وكل ذلك بسبب تقديم الفلسطينيين دعاوى أمام المحكمة الدولية عن جرائم كيان الاغتصاب والاستيطان الإسرائيلي، وكلها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تساوي في فظاعتها وشناعتها جرائم أمريكا حول العالم، وقتلها لنحو ثمانية ملايين إنسان في حروب ما بعد الحرب العالمية الثانية، فوق ما ارتكبته من جرائم قتل وحشي لمئات الآلاف في حربي غزو أفغانستان والعراق، اللتين عجزت فيهما أمريكا عن تحقيق نصر نهائي يعتد به، وتهزم فيهما عسكريا بعد هزائمها الأخلاقية، تماما كما عجزت ربيبتها إسرائيل عن تحقيق أي نصر عسكري بعد حرب 1967.
ليس لأحد أن يزايد على الشعب الفلسطيني وكفاحه الشعبي الإبداعي بما يملك شبابه من جسارة الروح والتصميم على استعادة الحقوق
والخلاصة، بغير تهوين ولا تهويل، ولا ابتسار للحقيقة ولا تحويرها، أننا بصدد بلطجة أمريكية تفوق كل بلطجة سبقت، وإهدار كامل ونهائي لكل قاعدة حقوقية أو دولية، وتصرف بدائي غريزي بمنطق الغابة، يتصور فيه الوحش الأمريكي أنه قادر على التهام الآخرين، وكما تعاقب أمريكا روسيا والصين وإيران وأوروبا وكندا وغيرها، فإنها تعاقب الشعب الفلسطيني، وتسعى لكسر عنقه، وإرغامه على قبول ما سمته “صفقة القرن”، وهو المستحيل بعينه، حتى لو تواطأت كل النظم العربية مع واشنطن، فأمريكا وتوابعها في حالة عجز خلقي، وقرار نقل سفارة واشنطن للقدس، وضع الحكام العرب في حرج بالغ أمام شعوبهم، وجعلهم يتنصلون علنا من لعبة “صفقة القرن”، التي يتصور ترامب أنه يعاقب الفلسطينيين لإخضاعهم، وإرغامهم على قبول الطبخة المسمومة، بقطع تمويل بقيمة 365 مليون دولار لوكالة “الأونروا”، وبقطع معونة المئتي مليون دولار لسلطة رام الله، وبقطع 25 مليون دولار سنويا لمستشفيات فلسطينية في القدس المحتلة، وكلها عقوبات لها أثر سياسي إيجابي في المحصلة، فهي تحرر الفلسطينيين من استعباد التمويل الأمريكي، وبمبالغ لا تصل في مجموعها، إلى ما ينفقه أثرياء عرب البترول على مائدة قمار في ليلة، أو في شراء قصور ويخوت، وهنا مربط الفرس، فلا شيء يفيد البلطجة الأمريكية أكثر من السفه العربي، ولو أن الأنظمة العربية فائضة الثراء البترولي، التي تدعي الغيرة على المقدسات والمسجد الأقصى، دفعت مليار دولار لا غير سنويا للفلسطينيين ولوكالة “الأونروا”، لو فعلتها لشلت تماما كل أثر معيشي سلبي موقوت للعقوبات الأمريكية، لكن الأنظمة العربية المعنية للأسف، تفضل دفع مئات مليارات الدولارات لترامب نفسه، وتقدم الدعم المالي المباشر لإسرائيل عبر الإدارة الأمريكية الحالية، وعبر فريق صفقة القرن، الذي شكله ترامب من اليهود الصهاينة حصرا، من نوع كوشنر وفريدمان وغرينبلات، وقد كان بوسع الأخير أن يدعي في تبجح كاشف فاقع، أن جعل القدس عاصمة لإسرائيل هي إرادة الرب التي تنفذها أمريكا، وكأن “الرب” المقصود هو بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى شخصيا.
وقد لا تكون من قيمة كبيرة لإدانة البلطجة الأمريكية، ولا لبيانات الاستنكار، ولا لمقالات الرأي على النحو الذي نكتبه ونقرأه، وقد ينتهي ذلك كله إلى قبض ريح، ما لم يجر “الطلاق البائن” مع أوهام السلام واتفاقاته، وإسقاط معاهدات وتوابع كامب ديفيد ووادي عربة، وإنهاء كل التزام فلسطيني تبقى باتفاقية “أوسلو” وأخواتها، وفك كل ارتباط وتنسيق أمني أو اقتصادي مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، فما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، ولدى الشعب الفلسطيني موارد قوة هائلة، لا تستبعد العودة إلى طريق الكفاح المسلح، وإن كان الأفضل في اللحظة الراهنة وتعقيداتها، أن يصبح أسلوب المقاومة الشعبية الجماهيرية هو الحل الأمثل، في غزة كما في الضفة والقدس والأراضي المحتلة منذ نكبة 1948، وليس لأحد أن يزايد على الشعب الفلسطيني، ولا على كفاحه الشعبي الإبداعي المتصل، بما يملك شبانه وشاباته من جسارة الروح وحجارة الأرض والتصميم على استعادة الحقوق، وجعل القضية الفلسطينية حية ماثلة في الأذهان والوجدان، فلا يفل الحديد إلا الحديد، وليس بعد البلطجة الأمريكية سوى المقاومة كبديل وحيد، تعرفه كل الشعوب التي هزمت السيف ببركة الدم الشهيد.
*كاتب مصري