يصعب في أيامنا الحديث عن أنظمة حكم توتاليتارية ذات بنية وخطاب متماسكين، فربما باستثناء أنظمة الصين وكوريا الشمالية وكوبا، لم تعد حتى أكثر الدول ضراوةً في قمع معارضيها، تستحق أن توصف بـ«التوتاليتارية»، أي دول شمولية تسيطر على كل مناحي الحياة في مجتمعاتها وترعاها. وتمتلك أيديولوجيا متماسكة، ترسم تصوّراً واضحاً للماضي والحاضر والمستقبل، وتُسخّر أجهزتها العنفية والأيديولوجية لفرضه على البشر. ديكتاتوريات اليوم، ومنها الديكتاتوريات في العالم العربي، باتت أشبه بحكم عصبوي أو مافيوي، لا يستمد شرعيته إلا من غياب البديل أو التهديد بالفوضى. ولا رواية شاملة ومتسقة له، يسردها للداخل والخارج، في سبيل تحقيق الهيمنة.
قد تبدو هذه أنباءً سارة على مستوى الإنتاج الثقافي، فسابقاً كان منتجو الثقافة في الدول التوتاليتارية ملتزمين، بقناعتهم، أو رغماً عنهم، بخدمة الرواية الأيديولوجية لدولهم. أما اليوم فسقط، في كل أنحاء العالم، نموذج الفنان أو الأديب «الملتزم»، الذي يكرّس أعماله لغايات أيديولوجية محددة سلفاً. وبات أمام منتجي الثقافة الفارين من الأنظمة الديكتاتورية، مثل أنظمة العالم العربي وبيلاروسيا وإيران، عالم واسع، يحوي كثيراً من المنظمات والمؤسسات الثقافية، التي من المفترض أنها تشجّع المنشقين على القول والتعبير.
ربما يكون عمل المنظمات غير الحكومية والأكاديميات ومراكز الفن المعاصر في شرق أوروبا، بعد سقوط الأنظمة الاشتراكية، مثالاً جيداً عن ذلك. سعت «مؤسسات سوروس»، كما يسميها البعض، نسبة للملياردير والمضارب المالي الأمريكي- المجري جورج سوروس، إلى دعم وتأمين ما تصفه بـ«الانتقال الديمقراطي»، عبر تقديم كثير من المنح والتمويل لآلاف الفنانين والكُتّاب والطلاب، فيما يقوم عديد من المنظمات بأمر مماثل مع اللاجئين السياسيين والإنسانيين في أوروبا والولايات المتحدة.
إلا أن عملية إخراج منتجي الثقافة من «الشرط التوتاليتاري» لا تبدو حرّة للدرجة التي طرحها خطاب ما بعد الحرب الباردة. كما أنها قد تخالف التصوّر الكلاسيكي عن «المجتمع المفتوح» (وهو أيضاً اسم المؤسسة المركزية المموّلة من سوروس). فالكُتّاب والفنانون يُظهرون مجدداً أنماطاً متعددة من «الالتزام». وإذا نظرنا للموضوع من زاوية البنية التحتية للإنتاج الثقافي، فربما يمكن الحديث عن توجّه مركزي موحّد، يدعم نمطاً معيناً من الأعمال الفنية والأدبية. ما يدفع للتساؤل عن ماهية اختلاف المؤسسات غير التوتاليتارية عن بنى الالتزام الحزبي والأيديولوجي السابقة. لا يمكن فصل آليات الدعم والتمويل الثقافي بالتأكيد عن التوجهات الأيديولوجية للمولين والمديرين الثقافيين. ولكن الأسئلة الأبرز، التي يثيرها الجو الثقافي الراهن، تتعلق بمفهوم الحرية الثقافية نفسه في عصر ما بعد سقوط الأيديولوجيات الكبرى: ما نمط الهيمنة الجديدة على إنتاج وخيال صانعي الثقافة، وتصوراتهم عن ذواتهم والعالم؟ وهل تتسامح مع مساحات للمقاومة، شبيهة بتلك التي ابتكرها ووسّعها ضحايا التوتاليتارية سابقاً؟
إبداع الشركات الصغيرة
لم تكن الرقابة في الأنظمة التوتاليتارية بوليسية وحسب، بل تجسّدت أساساً في رقابة أبناء الصنعة، أي المعايير والمتطلبات التي فرضتها نقابات واتحادات الكتاب والفنانين على كل من يريد ممارسة الإنتاج الثقافي، في ما يشبه الدور الذي لعبته النقابات الحرفية في العصور الوسطى، التي كانت تفرض قيود الحرفة وأحكامها، إلى جانب الصيغ الدينية، المتعلقة بإيمان وسلوك أعضائها.
في التوتاليتاريات الاشتراكية تحديداً، طبّقت الدول مفهوم «الديمقراطية الشعبية» على نقابات واتحادات منتجي الثقافة، فكانت تجرى فيها انتخابات شكلية بصورة دورية، وتعقد مؤتمرات وجلسات تداولية وحوارية لأعضائها. كان التنظيم النقابي للمثقفين آنذاك أقرب للتعبئة الحزبية: المبدعون فئة فريدة من الشعب، تتمتع بموهبة خاصة، ولا بد من حشد طاقاتها لتحقيق الأهداف العامة للدولة. رغم هذا ارتبطت موجات «الانفتاح»، التي شهدتها تلك الدول، بفتح مساحات أكبر لمنتجي الثقافة، فهم يقررون الطريقة التي سيناصرون بها الأيديولوجيا العامة للأمة والنظام، على أن لا تخرج عن التوجهات العامة المفروضة من أعلى. وتدريجياً اعتُبرت المباشرة والخطابية في الطرح أمراً غير محبب. ودليلاً على ضعف الموهبة. فيما ظهرت كثير من الأعمال المتمردة، سواء داخل المؤسسات القائمة، أو على هوامشها، التي كانت تتسع باطراد. كانت الهيمنة آنذاك شديدة الصلابة والوضوح، ولذلك يمكن تحديد هياكلها ومتطلباتها بسهولة، وكذلك التهرّب منها ومقاومتها. وبهذه الطريقة ظهر مبدعون، مثل السينمائي السوفييتي أندريه تاركوفسكي، والمسرحي الألماني الشرقي هاينر موللر، استطاعوا إنتاج أعمال شديدة التميّز والتحرر من المتطلبات الأيديولوجية في بلدانهم التوتاليتارية، وأحياناً ضمن النقابات والاتحادات الثقافية فيها، رغم القمع والتضييق الذي واجهوه.
قد لا تكون مؤسسات «المجتمع المفتوح» أكثر تحرراً من السلطات التوتاليتارية القديمة، ولهذا فمواجهة «طواحين الهواء» هذه تبدو من أكثر المعارك ضرورة للحفاظ على أي مفهوم ممكن للحرية الثقافية، وبناء هيمنة بديلة لتسلّط الممولين والمضاربين الماليين.
كان من أول إجراءات «الانتقال الديمقراطي» في دول أوروبا الشرقية إلغاء اتحادات ونقابات المثقفين، وبدلاً منها غرقت تلك البلدان بسيل من منظمات «المجتمع المفتوح»، التي لم تطرح عقيدة عامة، على منتجي الثقافة الالتزام بها، بل «شروطاً للتمويل» بكل بساطة. وبما أن شروط التمويل لا تعتبر إرغاماً لطالبيه، بل ظرفاً تعاقدياً يوصف بـ»الحر» بين طرفين، يتمتعان بمساواة قانونية شكلية، فلم تجد مؤسسات «المجتمع المفتوح» أي حرج في طرح متطلباتها، الموحّدة بشكل كبير، على كل منتجي الثقافة. هي لن تسجن أو تقمع أحداً، ولكنها لن تموّل إلا من يلتزم بشكل شديد المباشرة بالتعبير عن قيمها المستجدة في «التنوّع» و»التمكين». الأمر الذي يمثّل مفارقة فريدة من نوعها: ليس الإبداع من تحرّر من رقابة الأيديولوجيا، بل الأيديولوجيا، بكل ثقلها، تحررّت من كل حرج كان يمكن أن يفرضه عليها مفهوم حرية الإبداع.
يمكن تحديد تغيّر تام في المنظور: كان المبدعون يتصرّفون بوصفهم أصحاب رؤيا وعقيدة، سواء مؤيدة للسلطات القائمة أو معارضة لها. أما اليوم فهم أشبه بشركات صغيرة، رأسمالها ذاتية المبدع، الذي لم يعد منتجاً للأعمال الثقافية وحسب، بل مديراً لأعماله الشخصية، يكتب الطلبات ويملأ الاستمارات، للحصول على نوع من القروض، سيفي بها من خلال عمله الثقافي/مشروعه الصغير.
الأيديولوجيا الحرة
يمكن القول إذن إن أهم إنجازات مؤسسات «المجتمع المفتوح» إلغاء المسافة بين العمل الفني والأيديولوجيا. وبما أن الاستثمار الأساسي لأي أيديولوجيا يتم في مجال صياغة الذاتية، تطرح المؤسسات الثقافية بنوداً واضحة، تتعلق بذوات المتمولين: نساء مهاجرات، لاجئون، مثليون جنسياً، أبناء مستعمرات سابقة، إلخ.
ملاحظة تركيز مؤسسات إنتاج الثقافة على هذه التصنيفات للذاتية يستبعد إمكانية الحديث عن صياغة حرة للهوية في عصرنا، فمنتجو الثقافة يجدون فائدة استثمارية كبيرة من تقديم أنفسهم وفق الهويات التي تطلبها وتدعمها مؤسسات التمويل. يمكن أن يوضح هذا الفرق بين النقد بعد الحداثي، الذي يحمّله كثيرون مسؤولية سياسات الهوية، وأيديولوجيا التظلّم المعاصرة: لم توجد أبداً مؤسسات أعلنت بوضوح تبنيها لـ«بعد الحداثة»، فيما توجد اليوم كثير من المؤسسات التي تعلن «التمكين» هدفاً أساسياً لها. وتشجّع البشر على تقديم روايات متماسكة عن مظالمهم، والحديث عن «تجاربهم الذاتية».
تدريجياً يجد منتجو الثقافة، الذين لا يعرّفون أنفسهم بهويات التظلّم، أن لا مكان له في بنى إنتاج الثقافي المعاصر. هل يمكن مثلاً لسيدة عربية في الدول الغربية أن تجد لها مكاناً لا يتعلّق بما تفترض المؤسسات الثقافية السائدة أنه معاناة اللاجئات أو الشرق أوسطيات؟ قد يكون هذا صعباً للغاية. ولذلك يتم استبطان الهويات المفروضة فوقياً بشكل «طوعي» تماماً. لم نعد في المجتمعات الانضباطية القديمة التي تراقب وتقمع بصورة مباشرة، بل في مجتمعات تحكّم، تصوغ الذات بنمط من القمع شديد السيولة.
مجابهة الطواحين
في هذا الشرط الأيديولوجي السائل تبدو أي محاولة للمقاومة أشبه بمحاربة طواحين الهواء. لا توجد جهة تابعة للسلطة بشكل مباشر، تفرض أحكامها على البشر. إذا لم تعجبك مؤسسات «المجتمع المفتوح» وقيمها، فلا أحد يجبرك على إرسال طلبات التمويل إليها، وليس مشكلتها أنه لا توجد جهات تمويل بديلة. في حين يبدو الحنين لطرق الإنتاج الثقافي القديمة شديد الرجعية. رغم هذا يمكن إعادة الاعتبار لتعبير «محاربة طواحين الهواء». فعلى خلاف التلقي السائد لملحمة سيرفانتس الشهيرة، لم يكن «دون كيخوته» مجرد مجنون أو واهم يحارب كيانات صنعها خياله، بل شخصاً نبيلاً حاول إضفاء المعنى على المعركة التي أراد خوضها ضد «العالم الجديد»، الذي بدأت ملامحه تتضح في عهده: ليس الاستغلال مجرد أعمال عنيفة، يرتكبها رجالات السلطة ومرتزقتها بشكل مباشر، بل قد يكون أدوات ووسائل وبنى إنتاج، مثل الطواحين، تدعي حيادها التقني، فيما تؤسس في الوقت نفسه منظومة متكاملة من الاستغلال والاستلاب.
قد لا تكون مؤسسات «المجتمع المفتوح» أكثر تحرراً من السلطات التوتاليتارية القديمة، ولهذا فمواجهة «طواحين الهواء» هذه تبدو من أكثر المعارك ضرورة للحفاظ على أي مفهوم ممكن للحرية الثقافية، وبناء هيمنة بديلة لتسلّط الممولين والمضاربين الماليين.
كاتب سوري