ما بعد “تويتر” إيلون ماسك: أيّ “ما قبل”؟

حجم الخط
2

قد يساجل البعض بأنّ الآثار السلبية (وثمة مَن يتحدث عن العواقب الكارثية) الناجمة عن استيلاء الملياردير الأمريكي إيلون ماسك على منصّة “تويتر” لن تتضح على المدى القريب والمباشر؛ ومن الخير، استطراداً، انتظار مفاعيل هذا التحوّل في مؤشرات أخرى فاعلة مثل البورصات ومصارف الإقراض الكبرى (خاصة تلك التي أكملت التغطية المالية لصفقة الـ44 مليارا التي تكفل ماسك بسدادها ثمناً للمنصّة). هنالك وجاهة، وإنْ بدت نسبية من حيث المبدأ، خلف هذه المساجلة؛ التي لا تلغي في المقابل تقديرات أخرى تحرص على وضع الواقعة ضمن سلسلة نظائر فارقة، أقرب إلى منعطفات كبرى، في حياة النظام الرأسمالي المعاصر إجمالاً، واقتصاد السوق والليبرالية الهوجاء بصفة خاصة.
وبمعزل عن مآزق اهتزاز العلاقات التعاقدية بين مواطن العالم المعاصر، في مغارب الأرض ومشارقها، مع شركات كونية كبرى على غرار “يوتيوب” و”أمازون” و”غوغل” و”أبل”، أو حيث تتجلى عصبة الـPayPal Mafia في فاشية رقمية تجمع أمثال ماسك مع دافيد ساكس (Geni) ورايد هوفمان (LinkedIn) وبريمال شاه (Kiva) ورولوف بوتا (Sequoia)؛ هنالك ما هو أدهى وأعمق على صعيد مؤسسات رأسمالية عتيقة نافذة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقيات الـ GATT ومنظمة التجارة الدولية. الطرفة السوداء هنا أنّ هذه، وما يتماثل معها أو يتكامل ضمن أعرافها، ما تزال قائمة وفق الوظائف ذاتها التي سنّها لها حكماء الاقتصاد الرأسمالي قبل سبعة عقود ونيف، بل هي اليوم أعلى شراسة وأشدّ جبروتاً ونفوذاً؛ لأنّ روحية اتفاقيات بريتون وودز، حيث انعقد مؤتمر النقد الدولي سنة 1944 وأنشأ هذه المؤسسات، هي ذاتها التي تتعرّض اليوم لارتجاج بنيوي عميق، يبرّر تلك التوصيفات الكابوسية للمآزق الراهنة، في أنها أشبه بـ 11/9 أو بيرل هاربور على صعيد البورصات والأسواق.
وفي إسار هذا المشهد بمعطياته كافة، ما بان منها علانية وما احتجب لأسباب لا صلة لها بالخشية من الإعلان، لسنا نفتقد منظّراً هنا، أو متفلسفاً هناك، يطالبنا بأن نعيش حقبة ما بعد سقوط منصّة “تويتر” في قبضة ماسك؛ تماماً كما طولبنا بأن نعيش ما بعد انهيار مصارف “وول ستريت” وبورصاته، وما بعد هزّات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وما بعد الحرب الباردة، وما بعد الحداثة، وما بعد المجتمع الصناعي، وما بعد الإيديولوجيا، وما بعد التاريخ، وما بعد السياسة… كأنما بات من النافل الحديث عن أيّ سابق على الـ”ما قبل”، أو كأنّ كل شيء حدث لتوّه، كما استغرب الباحث الأمريكي دافيد غريس في كتابه المثير “دراما الهوية الغربية”: يريدون من العالم أن يخلع أرديته واحدة تلو الأخرى، من العقلانية والرومانتيكية والثورية، إلى تلك الرجعية والوثنية والمحافظة، مروراً بالليبرالية والرأسمالية والاشتراكية، فضلاً عن الأصوليات والعصبيات والهمجيات.

“ما بعد” استيلاء ماسك على “تويتر”، غير البعيدة عن أن تكون المنصّة الأهمّ والأخطر ضمن وسائل التواصل الاجتماعي، لا يصحّ أن يُجرّد، أو يُسلخ حرفياً، عن الـ”ما قبل” في ظواهر التأزّم الرأسمالي، ما شابهها أو تماثل معها أو دانى عواقبها

ولكن إذا توجّب، بالفعل، أن نعيش في أحقاب الـ”ما بعد”، المتغايرة المتتابعة هذه، فلماذا يتوجّب ألا تكون هذه حقبة التبدّلات الكبرى التي تطرأ، أيضاً، على ملفّات لاح أنها استقرّت أو رسخت أو “انتصرت” نهائياً؛ مثل بداهة العولمة، وحتمية اقتصاد السوق، وقدرية انكماش العالم إلى محض “سيليكون فالي”؟ ولماذا لا تكون حقبة ما بعد انهيارات “وول ستريت”، أسوة بشقيقتها ما بعد 11 أيلول، نذيراً باقتراب مراحل الـ “ما بعد” في هذه الأقانيم التي يتغنّى بها الغرب كلّ يوم: العولمة، اقتصاد السوق، العالم في هيئة قرية صغيرة؟
ألا يبدو التبشير هذا أشبه بصيغة مستحدثة، ولكن على عجل وخفّة وضحالة، لليوتوبيا العليا والقصوى والأخيرة التي اتخذت هيئة “خاتم البشر” كما بشّر به فرنسيس فوكوياما (قبل أن يتراجع ويعدّل ويطوي…)؛ حيث لا أزمات ولا هزّات ولا انكسارات؟ ألا يلوح عندهم، أو كما يريدوننا أن نبصر، وكأنّ التاريخ لم يعرف فترات الركود الرأسمالية الطاحنة، أو كأنّ اقتصاد السوق الحرّ في إنكلترا (مهد ولادة هذا الاقتصاد، وميدان تطبيقه الأوّل) لم يشهد شظف العيش اليوميّ في إسار سياسات مُفقِرة وظالمة اجتماعياً، من اللورد بالمرستون وصولاً إلى مارغريت ثاتشر؟
وفي حقبة غير بعيدة، حين تبدّت أولى مظاهر التأزم في الاقتصاد اليوناني، كانت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية سبّاقة إلى كشف النقاب عن تواطؤ كبرى بيوتات المال الأمريكية، وعلى رأسها مصرف “غولدمان ساكس”، في صناعة الأزمة. فعلى امتداد عقد كامل، وبالأحرى منذ دخول اليونان في منطقة اليورو، أغدقت تلك البيوتات قروضاً سخية على حكومات أثينا المتعاقبة، وكانت تموّه عمليات الإقراض تحت بنود شتى ومسمّيات مختلفة، تسمح في المقام الأوّل بالتملّص من القيود التي كان الاتحاد الأوروبي قد فرضها على سقوف التضخم الحكومي.
وتلك، على مأساوية عواقبها بالنسبة إلى المواطن اليوناني، كانت فرصة لاكتشاف جديد حول معضلات النظام الرأسمالي، ممثلاً في فرعه الأبرز الأمريكي: أنّ مجموعة “غولدمان ساكس” ليست قصة نجاح رأسمالية باهرة تعود إلى سنة 1869 فحسب، بل هي “أخطبوط عملاق يمتصّ الدماء” في تعبير مجلة “رولنغ ستون”. وعلى نقيض المبدأ الشهير “دعه يمرّ، دعه يعمل”، بوصفه أحد أكثر أقانيم اقتصاد السوق قدسية وعراقة، كانت المجموعة تعتمد مبدأ النقيض الأقرب إلى هذا الشعار “لا تدعه يعمل، إلا إذا مرّ من هنا”؛ أي من تعاملات الزبائن مع مصارف المجموعة. الأمر الذي لم يوقف، في كلّ حال، العزف المديد على نغمة انتصار اقتصاد السوق، والتنظير المكرّر المملّ حول عبقرية النظام الرأسمالي.
قبلها، في حقبة غير بعيدة بدورها، نشبت معركة قانونية ضدّ قصة نجاح رأسمالية ليست أقلّ بريقاً، بل لعلّها أكثر كونية وانضواء في حاضنة العولمة؛ أي قضية وزارة العدل الأمريكية (ومن ورائها أكثر من عشرين ولاية، وعشرات شركات الكومبيوتر الصغيرة والكبيرة) من جهة أولى، ضدّ الملياردير الأمريكي بيل غيتس وشركة “ميكروسوفت” العملاقة من جهة ثانية. وفي الجوهر الأعمق من تلك المواجهة الضارية، كان مبدأ “دعه يمرّ، دعه يعمل” يتعرّض للمساءلة والمراجعة، ليس في ميدان التنظير الفلسفي او الاقتصادي كما جرت العادة، وإنما في خضمّ السوق، وفي ظلّ قوانين العرض والطلب دون سواها.
وتلك، من جانب آخر، معركة أطلقت شرعية التذكير بأنّ هذا الطراز من المواجهات سوف يشكّل بصمة الأيام القادمة من أزمنة الرأسمالية الكونية، وأطوار العولمة، وحصيلة إغلاق “قرن أمريكي” وافتتاح آخر لا كما حلم الفرقاء الكبار الذين صنعوا منعرجات الماضي. كان ثمة، غنيّ عن القول، الكثير من المغزى في أن تهبّ الرأسمالية ضدّ واحد من خيرة أبنائها البرَرة، غيتس؛ وضدّ واحدة من كبريات معجزاتها، “ميكروسوفت”؛ كي نقتبس تشخيص أسبوعية الـ”إيكونوميست” العليمة بأسرار الآلة الرأسمالية.
وهكذا فإنّ “ما بعد” استيلاء ماسك على “تويتر”، غير البعيدة عن أن تكون المنصّة الأهمّ والأخطر ضمن وسائل التواصل الاجتماعي على أصعدة سياسية واقتصادية وفكرية، لا يصحّ أن يُجرّد، أو يُسلخ حرفياً، عن الـ”ما قبل” في ظواهر التأزّم سالفة الذكر، وفي الكثير سواها، شابهها أو تماثل معها أو دانى عواقبها. وإذا كانت البورصات “فاتيكان اقتصاد السوق” حسب تعبير الاقتصادي الأمريكي المعروف كنيث غالبرايث، فإنها بدرجات أعلى بمثابة متحف الذاكرة الرأسمالية، ومستقرّ الأفراح والأتراح، الأرباح والخسائر، والدموع التي تنهمر حزناً أو تفيض غبطة.
وها هنا ميدان ما بعد “تويتر” الذي في قبضة ماسك، لا لأيّ اعتبار آخر يسبق حقيقة أنّ البورصة هي ميدان الـ”ما قبل”؛ أو، ببساطة أكثر: حلبة المعترك… من قبل ومن بعد!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جواد:

    لا يمكن أن يكون المال وحده وراء ” استيلاء” ايلون ماسك على تويتر، يبدو أن وراءه نوايا سياسية و مغامراته تشهد على ” اندفاعه” !
    هل ستتغير تويتر مع انفراده بادارتها؟! لا اعتقد ذلك ، و إن حدث فليس الى الحد الذي يجعلها شيئا آخر!
    السلبية في هذا الاستيلاء احتكار المال لمنافذ الرأي و التعبير ، و حينما يختزل في شخص واحد يكون اسوء.
    هناك اقتراح بتسقيف قانوني للثروة الشخصية لا يتعدى العشرة مليار ، اقترحه جورج مونبيوت بالغرديان ، وجدته جدير بالاهتمام و الاعتبار ، و لكن على من اقترحه؟!

  2. يقول درغام النقيط بن نُغَيْل (الملقب بالمجلوب):

    في واقع الحال ، انفراد إيلون ماسك بإدارة (تويتر) ليس سوى تغطية مالية على مجموعة من المآرب السياسية الخطيرة.تحية للسيد حديدي.

إشترك في قائمتنا البريدية