ما بين الإجرام والقوة الذاتية بصيرة ويلز

الإجرام والانحدار الأخلاقي، سواء على مستوى البشر، أو الشعوب آفة مصدرها البشر ذوو الإرادة المهتزَّة، التي تؤثِّر سلبا في القوَّة الذاتية، فالظروف الاجتماعية والثقافية عامل فاعل قد يضعف الإرادة الذاتية أو يقوَّيها، علما بأن ضغط الفساد المستشري في ضعاف النفوس من البشر غالبا ما تكون له الغلبة عند وجودهم في جماعات.
فمثلا، امتلاك القوَّة أو المال أو المعرفة وسط جماعة كبيرة من الضعفاء، أو المحرومين أو الجهلاء، على التوالي، قد لا يكون ميزة إضافية؛ فقد توغر تلك الميزة صدور المحرومين، وتحثُّهم على التكالب على من يمتلكها، وهذا ما حدث تماما عندما انتشر التيَّار الشيوعي في العالم كالنار في الهشيم، كردّ فعل عنيف للرأسمالية والإقطاع والطبقية، التي ألهبت ظهور العامة لعهود طويلة، وحتى مع اندحار الحركات الشيوعية لم تعد الرأسمالية والطبقية والإقطاع كسابق عهدها.
وموازين القوى ورصد التغيرات الاجتماعية يستلزم وجود إرادة وقدرة على مواجهة المواقف بلا خوف، وهذا ما فعله الكاتب الإنكليزي إتش جي ويلز H. G. Wells (1866-1946) الذي كانت حياته الأولى سلسلة من الإحباطات والفقر، ولو كان استسلم بسببهم لقدره المحتوم، لم يكن أبدا ليطلق عليه لقب «شكسبير الخيال العلمي»، أو «رائد أدب الخيال العلمي»، فقد عاش في أسرة شديدة الفقر بين أبوين منفصلين. ولم يستطع والداه إرساله لمدرسة جيِّدة، ولإتمام حظه السيئ، تعرَّض لحادث أفضى إلى كسر قدمه، لكنه لم يستسلم ووجد في تلك المحنة وسيلة لإشباع نهمه للقراءة، وساعده في ذلك والده، الذي كان يمده بالعديد من الكتب التي يحضرها من المكتبة العامة، كان ويلز مولعا بالروايات العلمية وكتب العلوم، وحتى مع اجتهاده حدث أن وقعت الأسرة في ضائقة مالية كبرى، فألزمتها أن تُجبر ويلز على هجر التعليم، وإرغامه على التحوُّل لعالم الحرفيين، حتى يستطيع توفير المال لنفسه ولأهله. فعمل كصبي في عدَّة حرف، لكنه لم يحترف أيا منها، حتى انبلج مخرج في شكل وظيفة معلّم للأطفال في إحدى المدارس. وأخيرا، انتهى به الحال أن يصبح معلما وطالبا في مدرسة أخرى. ومن خلال الصحيفة المدرسية استطاع أن ينشر كتاباته التي لاقت نجاحا، وكانت نواة لنجاحه الأكبر عندما استطاع أن ينشر روايته الأولى «آلة الزمن» The Time Machine عام 1895.
فلو كان ويلز قد استسلم لقدره وللفقر، لما استطاع أبدا تحقيق ما وصل له من مكانة اجتماعية وثقافية خلَّدت اسمه. أضف إلى ذلك، أنه استفاد من تجارب حياته المريرة، وجعل رواياته وقصصه مبنية على نقد السلبيات والاهتمام بالجانب الأخلاقي، الذي من شأنه الارتقاء بالمجتمع، وهذا كان سببا أساسيا في تفوُّقه على غيره من مشاهير كتاب الخيال العلمي، مثل جول فيرن Jules Verne الذي تنبأت رواياته بالعديد من الاكتشافات العلمية، لكنها جابهت نقدا لاذعا وصل لدرجة العزوف عن قراءتها.
على النقيض، أقبل العامة والخاصة على قراءة أعمال ويلز، التي تنبأت باختراعات مستحيل حدوثها في عصره؛ مثل الدبابات والطائرات والأسلحة النووية والقنوات الفضائية وشبكة الإنترنت والهندسة البيولوجية، بل تخيَّل أشياء أخرى يجهِّز العلماء لاختراعها، مثل السفر عبر الزمن والقدرة على الاختفاء وتحقيق عالم اليوتوبيا. والسبب في تقبُّل أفكاره المستحيلة أنه كان على إيمان راسخ بأنه يتوجَّب على المؤلف أن تنطوي كتابته على مقدار وافر من المصداقية قدر المستطاع، وأن تنطلق الأحداث من المعقول والواقعي ثم تتدرَّج مع وعي القارئ إلى أن يتقبَّل المستحيل، وهذا ما يطلق عليه ويلز «المستحيل المعقول» و»تعليق عدم التصديق».
حظي ويلز بالعديد من الألقاب الإيجابية طوال حياته، وكذلك لم يصبه نقد لاذع كغيره من الكتَّاب، بل كانوا يلقبونه بـ»ذي الخيال الجامح»، أو «ذي الأفكار الكبيرة». وفي كتاباته، كان تزاوج الخيال العلمي مع النقد الاجتماعي والاهتمام بالجانب الأخلاقي، سببا في ترشيحه لجائزة نوبل لأربع مرَّات، على عكس أقرانه من مؤلفي أدب الخيال العلمي، لكنه لم يصب بالغرور، بل استمر في محاولاته لتقديم المزيد من الأفكار المبتكرة في أعمال أدبية تزخر بالخيال العلمي، مع عدم إغفال الجانب الأخلاقي.
وفي ما يبدو أن حياته القاسية لقنته درسا عن أهمية عدم التفاخر بالقدرات وإخفاء المميزات المتفرِّدة، وإلَّا لن يستطيع المرء التصدِّي للجماعات التي تعوزها ميزاته، وتكرِّس جهودها لهدم من يفوقونها في القدرات، فقد حدث يوما وهو تقريبا يعاني من إصابات ورضوض وسعال يجعله يتقيَّأ دما فصار طريحا للفراش وكأنه على مشارف الموت – أنه كتب قصة «بلد العميان» Country of the Blind، التي تحكي قصة شاب بصير وقع من أعلى جبل في بلد جميع أفرادها عميان منذ أجيال كثيرة لدرجة أن كلمة «بصر» لم يعد لها وجود في قاموسهم اللغوي. في بداية الأمر، ظنّ الشاب أن امتلاكه لنعمة البصر سوف يجعل منه ملكا على العميان الذين لا يميزون الأشياء. لكن حدث النقيض، فلقد اعتبره العميان مخبولا وأقصوه منبوذا. وحتى يتمكَّن من العيش ويجد ما يقتات عليه، توجَّب عليه الرجوع صاغرا والعمل كخادم لدى أحدهم. وحينما ارتضى حياة الذل والهوان، أحب فتاة لا يقبل الزواج منها جميع أفراد البلد؛ لاعتبارها بشعة، فهي لا تتناسب ومقاييس الجمال المتعارف عليها في البلد، في حين أن الشاب البصير كان يراها أجمل البنات. والمفاجأة أن والدها وافق على إتمام الزيجة شريطة أن يقتلع الشاب عينيه التي تسبب له خبلا وأفكارا مشوشة. لكن الشاب يختار في آخر لحظة أن يسلك دربا وعرا خطرا للهروب من ذلك البلد. تنتهي القصَّة والشاب مستلق على ظهره على سفح جبل مكلوما بالجراح والرضوض لكنه سعيد برؤية السماء والنجوم.
فسَّر البعض، أن القصة ترمز إلى الاستعمار الذي يتمثَّل في شخص الشاب البصير الذي تعوزه البصيرة، وآخرون اعتبروها تحضّ على ضرورة اتباع الطريق القويم، حتى لو اضطر المرء مخالفة رأي الجماعة؛ فحينما وافقهم الشاب كان على وشك أن يفقد عينيه. لكن ما يسترعي حقا الانتباه هو النهاية التي تركها ويلز مفتوحة؛ فهو لم يذكر ما إذا كان الشاب قد زهقت روحه عندما سلك المنحدر الوعر للخروج من بلد العميان، لكن ويلز ركَّز على أن الشاب رغم أي شيء سعيد بالحرية. فلا معنى للحياة دون حرية والحق في تقرير المصير، حتى لو استلزم الأمر نبذ جميع أسباب الترف والرَّاحة التي تجعل المرء يفقد تفرُّده. فالميل للطريق القويم والسير عكس التيَّار السائد صعب، والأصعب منه هو الوصول للغايات السامية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية