في حادث غريب من نوعه، سمع العالم أن المطربة العالمية والمحبوبة داليدا (17 يناير/كانون الثاني 1919- 3 مايو/أيار 1987) انتحرت وفارقت الحياة طواعية بعد سيطرة الشعور بالتعاسة عليها. وحالة داليدا ليست الأولى من نوعها ولا الفريدة، فهناك الملايين من المليونيرات والمليارديرات الذين ينهون حياتهم بأنفسهم، سواء بالانتحار أو بتدمير الذات من خلال إدمان المخدرات وما شابه، وذلك لشعورهم بالتعاسة. فليس كما يظن البعض أن النقود أو الشهرة هي ما تسبب السعادة، التي هي الكنز الذي يبحث عنه الجميع، بغض النظر عن اتجاهاتهم أو ميولهم أو حتى جنسهم؛ فالحيوانات أيضا تبحث عن السعادة ويقتلها الشعور بالعجز والتعاسة.
والحديث الأفلاطوني عن الشعور بالسعادة الخالصة، هو مجرد لغو لا يمت للواقع بشيء؛ وجلَّ ما يبحث عنه المرء هو الشعور بأنه «على ما يرام» وينبثق من ذاك الشعور إحساس خفي بالسعادة، أو السعي لتحقيقها جزئيا، وبذلك يستطيع الفرد أن يواصل حياته دون أن تسيطر عليه غمامات الاكتئاب، التي تفضي إلى الشعور بأن الفرد لا حول له ولا قوة، ومن ثم يدخل في دوامات من الانعزالية الداخلية، التي قد تفضي إلى الانتحار، بحثا عن الإحساس بأن ذاك الفرد سوف يصير على ما يرام بعد الموت.
هذا النوع من الاضطراب العقلي لا يمكن الاستهانة به؛ لأنه قد يدفع الكثيرين لارتكاب أشنع الجرائم؛ سعيا للشعور بالسعادة، وقد تنبه لذلك علماء النفس بعد الحرب العالمية الثانية، عندما تبيَّوا أن الصحة النفسية تقتضي ليس فقط راحة المرء من العلل النفسية، لكن أيضا توفير العوامل التي تسبب له الشعور بالازدهار. فالإنسان موجود على سطح الأرض ليس فقط لأن يتمكن من العيش، لكن للازدهار وتحقيق النجاحات.
وفي ذاك الإطار ظهر فرع من فروع الطب النفسي الحديث، الذي يسمى «علم النفس الإيجابي» Positive Psychology الذي بلوره العالِم الأمريكي أبراهام مازلو Abraham Maslow (1908- 1970) بتأسيسه لنظرية جديدة للطب النفسي تضع على رأس أولويات الصحة النفسية تلبية الاحتياجات الفطرية للإنسان، التي سماها بهرم مازلو. لكن يكمن قصور تلك النظرية في أن تلبية الاحتياجات الفطرية للإنسان لن تجعله يشعر بأن الحياة تستحق أن نخوض معترك رحلتها حتى النهاية، بالإضافة لذلك، فإن تلبية الاحتياجات الفطرية لا تؤهل الفرد للتعرُّف على القوى الكامنة داخل جسده، التي قد تمكنه من تنشيط الشقرات في جسده؛ لأنه حين شعوره بأن لا حول له ولا قوة، تصاب جميع الحواس الأخرى بشلل يتأرجح بين المؤقت والدائم، حسب حِدَّة وطول فترات الاكتئاب التي تسيطر على الإنسان. ومن ثم، كان إنجاز عالم النفس الأمريكي مارتن سيليغمان Martin Seligman (1942) المشهور بتأليفه لكتب مساعدة النفس للخروج من الأزمات، هو استحداثه لنظرية للخروج من دائرة «الإحساس بالعجز» التي جعلته يرتقي المرتبة الواحدة والثلاثين ضمن قائمة أكثر العلماء الذين يتم الاستعانة بآرائهم في المراجع والدراسات العلمية، وبالتالي الأكثر تأثيرا عالميا، حسب تقرير تم نشره عام 2002.
والسعي لتحقيق «نموذج بيرما» لم يعد حبيس المختبرات أو حلقات التنمية البشرية المتاحة لفئات قليلة؛ فهناك بعض المؤسسات والدول التي بدأت خطوات عملية لتنفيذ النموذج.
ونظرية سيليغمان «للازدهار» من خلال الشعور بأن المرء على ما يرام، أطلق عليها اسم «نموذج بيرما» PERMA Model، وهو عبارة عن خمس خطوات يجب اتباعها ليحقق الإنسان ذاته، ألا وهي: الشعور الإيجابي Positive Emotion، والانخراط Engagement، والعلاقات Relationships، والمعنى Meaning، والإنجاز Achievement. وقد تم اشتقاق كلمة «بيرما» PERMA من خلال تجميع الحرف الأول لكل مبدأ في كلمة واحدة. مع العلم أن مكونات هذا النموذج تتأرجح بين مكونات لتحقيق السعادة الحسية، وأخرى لتحقيق السعادة من خلال تحقيق الذات. والمبدأ الأول الذي يقضي بـ»الشعور الإيجابي، هو بالأساس وسيلة لتحقيق السعادة بصورة حسِّية، ومن خلالها يمكن تكوين مشاعر إيجابية إزاء الماضي والحاضر والمستقبل. فمع الماضي، نمتن لكل ما حدث به ونتسامح مع أوجاعه؛ أما الشعور الإيجابي إزاء الحاضر، فمن خلال تذوُّق الملذات الحسية والتيقُّظ لكل ما يحيط بنا من ظروف، وبالتالي، فإن الشعور الإيجابي إزاء المستقبل يكون من خلال توسيع آفاق الأمل والتفاؤل. والشعور الإيجابي ليس من السهل تحقيقه، فهو في بعض الأحيان طبيعة موروثة، وهناك من يعانون ضعفا فيها. والمفهوم التقليدي للسعادة يقوم على التركيز على المشاعر الإيجابية. ومن ثم، كانت التركيز أيضا على المفاهيم الأخرى لتوضيح أن هناك طرقا أخرى لتحقيق السعادة.
وأما «الانخراط» فهو تلك التجربة التي يكرِّس فيها المرء مهاراته وخبراته ونقاط قوته واهتماماته لتنفيذ مهمة صعبة، أو تستنفر جميع طاقاته، وحينئذِ يصير الهدف من تحقيق أمر ما بغية الإنجاز، وليس بغرض المنفعة التي قد تعود على المرء بعد تحقيقه، ومثال على ذلك: العزف على آلة موسيقية، أو قرءة كتاب، أو ممارسة الرياضة بوجه عام، أو تصليح الأثاث، أو القيام بأعمال البستنة، وغيرها من الأعمال والهوايات.
وبالنظر إلى مبدأ تكوين العلاقات فهو من أهم الركائز، سواء لتحقيق السعادة الحسية أو لتحقيق الذات، حيث أنها تعطي للحياة قيمة ومعنى بإيجاد من يشارك المرء أفراحه وأتراحه. ومن هنا يأتي وجوب «الإحساس بالمعنى» ويتم ذلك من خلال الانتماء لشيء أكبر من الذات يحث الإنسان على تحقيق هدف سام؛ مثل الانتماء لمنظومة لتحقيق العدالة، أو الاهتمام بالأسرة والحفاظ على القيم الدينية والأخلاقية. ودون أدنى شك، يفضى ذلك للشعور بـ»الإنجاز» وتحقيق الذات من خلال إتقان أمر ما والنجاح فيه فيشكِّل علامة فارقة في حياة وشعور الإنسان، ويتمثل الإنجاز في النجاح في المدرسة أو العمل أو الرياضة أو حتى في كسب ود الآخرين.
والسعي لتحقيق «نموذج بيرما» لم يعد حبيس المختبرات أو حلقات التنمية البشرية المتاحة لفئات قليلة؛ فهناك بعض المؤسسات والدول التي بدأت خطوات عملية لتنفيذ النموذج. فالمؤسسات أنشأت قسم «الموارد البشرية» الذي يسعى إلى خلق بيئة عمل ممتعة يحقق فيها الإنسان ذاته، وبالتالي يفيد بيئة عمله بالانتماء إليها. وهناك أيضا دول انتهجت المسار نفسه. أما دولة الإمارات فاتخذت قفزة كبرى عندما أنشأت «وزارة السعادة» لتحقيق الرفاهية للفرد. فدون الشعور بالسعادة ينتشر في المجتمع أفراد مضطربون نفسيا، والذين يقنعون أنفسهم أن الوصول للسعادة يكمن إما في تدمير الذات، أو في تخريب ما يحيط بهم من أفراد وممتلكات، ما يؤدي لانتشار الفساد، ومن ثمَّ، لا تتقدم الدول التي يسود فيها الشعور بالكراهية والحقد إزاء أي فرد استطاع تحقيق السعادة.
كاتبة مصرية
الكثير لا يرون السعادة في جمع المال بالرغم من أهمية المال ودوره في توفير كافة المستلزمات لذا نجد أناسا يقدمون على إنهاء حياتهم حتى لو كانوا أغنياء. الأسباب متعددة.
شكرًا أختي نعيمة عبد الجواد، أنا من محبي قراءة علم النفس، ولاحظت أن هناك تقارب بين علم النفس الإيجابي والدين هكذًا عمومًا. هذا على خلاف علم النفس التقليدي أي الكلاسيكي الذي كان يقف على إتجاه أخر من الدين. تطور كبير بلا شك.