من الأسئلة التي طرحت عليّ، في اللقاء الذي نظمته لي مؤسسة عبد الحميد شومان الرائدة، للقاء الجمهور في ندوتين في الأردن، واحدة في جامعة اليرموك والأخرى في مقر المؤسسة، سؤال عن استفادتي من القراء، وهل استفدت فعلا منهم؟
وأظن السؤال مستوحى من وضعي لآراء عدد من القراء، في طبعة من كتابي «قلم زينب» وكان ذلك أمرا لافتا، حيث اعتاد الكتاب وضع آراء نقاد معروفين، من أجل الدعاية والتسويق.
صراحة لا أعتبر وضع آراء قراء في الغلاف الخلفي لأي كتاب، أمرا خارقا للعادة، أو أمرا يثير الاستغراب، والقارئ، كما نردد دائما، جزء مهم من العملية الإبداعية، والكتابة أصلا موجهة للقارئ، وفي عدم وجوده، ينبغي أن لا تكون هناك كتابة تكتب وتنشر وتوزع، ولو طالعنا الحملات التسويقية التي تتبع نشر الكتب، لوجدناها تتوجه إلى القارئ بالإغراءات والتخفيضات، والوعود بقراءة دسمة، ونادرا ما يكتب في إعلان كهذا شيئا عن الكاتب، فالأمر محصور بشدة بين كتاب فيه نص، وقارئ قد يكون ينتظر الكتاب، أو لا ينتظره، حسب تطلعاته القرائية.
أنا بلا شك أستفيد من القارئ، بالأحرى أستفيد من كل ما أظنه داعما للكتابة، ويضيف إليها شيئا، وفي رحلتي التي بدأتها منذ سنوات طويلة، صادقت الرواة الشفاهيين، وكنت أجلس مع الجدات وكبار السن في منطقة طوكر، أقصى شرق السودان، وفي مدينة بورتسودان، وأستمع إلى حكايات لم تحدث قط، لكن برزت على ألسن الرواة كحقائق مسلم بها، لا أقول إن هؤلاء كانوا يكذبون، لكن يستخدمون خيالهم قليلا للانعتاق من أسر الرتابة التي تحوم حولهم، وأيضا للفت النظر إلى وجودهم الذي قد يكون خبا بتقدم السن، والتفات الناس إلى أعمالهم. وقد تحدثت مرة عن عدد من الحكائين، زينوا ألسنتهم بمغامرات لطيفة، لم تحدث بالطبع، منها ما ذكره عبد الله، الذي يعرف وسط الناس بعبد الله الكذاب، عن لقائه في بلد أوروبي، بالمطربة الأمريكية ديانا روس في رحلة قام بها لأوروبا، ووعده لها بالزواج منها، بعد قصة حب ملتهبة بينه وبينها استمرت ست ساعات، وأنه لم يتزوجها، وفرّ عائدا إلى بورتسودان التي لن يستبدل نساءها بأي نساء.
وعلى الرغم من أن الجميع يعرفون أن عبد الله هذا لم يبرح بورتسودان قط، ولم يعش خارج حي جابر في جنوب المدينة، ساعة واحدة، ولم ير أوروبا إلا سرابا في الأفلام الأجنبية التي كانت تعرض في السينما، ثم انتقلت إلى أشرطة الفيديو بعد تدمير السينما، وتحويل أرضها، إلى قطع استثمارية، إلا أنهم كانوا ينبهرون بالأداء المبهر حقا، الأداء الذي يضع كل كلمة في مكانها الصحيح، وكل جملة تخرج من اللسان، في موضع خروجها بالضبط، كانوا يصفقون، ويصفونه بالوطنية، ولطالما قلت إن الرواية الشفاهية، ليست عملا سهلا، إنها على الرغم من بزوغها على لسان، ولا يستطيع راويها كتابتها على الورق، تحتاج لتدريب وثقافة عامة، تجعل الراوي الشفاهي، مدركا لأهمية فنانة مثل ديانا روس، وممثلا مثل جون ترافولتا، ويوسف وهبي، وغير هؤلاء من النجوم البعيدين.
أعود لمسألة القارئ، والاستفادة منه، وكنت قلت إن القراءة نفسها إبداع، ويوجد قارئ مبدع، مثلما يوجد كاتب مبدع، أي يوجد قارئ يعرف كيف يقرأ الكتاب ويستنبط الحيل منه، وقد يصل إلى استنتاجات لم تخطر على ذهن الكاتب نفسه، أثناء الكتابة، وحين يقرأها الكاتب بعد ذلك، يضعها في حسابه، وأنه سيستفيد منها مستقبلا. نحن بالطبع نعرف ورش الكتابة، تلك التي تدرب الموهوبين على كيفية المشي في الدرب، وإنتاج نصوص جيدة، لكن عرفت أن هناك ورشا للقراءة أيضا، تلك ترشد القارئ إلى التعامل مع النص، وليس قراءته بسطحية، واستهتار، لا يعني ذلك أن يتعلم القارئ نقد النصوص، فهذا تخصص أكاديمي، لكن القراءة الصحيحة التي تؤدي إلى المتعة والفائدة. في تجربة لي استفدت فيها من قارئ، استفادة حقيقية، ما حدث لروايتي «اشتهاء». كانت اشتهاء أو صيد الحضرمية في عنوانها الأصلي، من روايات البدايات، كتبتها بوحي عملي في مدينة طوكر، ومستفيدا بما عثرت عليه هناك من سحر، وقصص شعبية شفاهية، وكانت رواية مكثفة جدا، ومكتوبة بجمل شعرية قصيرة، قد تكون صعبة الاستيعاب، وفي إحدى زياراتي للخرطوم، التقيت بالمخرج التلفزيوني الراحل محمد سليمان دخيل الله، الذي أراني مقالا كتبه عنها وذكر فيه أن الرواية كانت لتكون أطول قامة، وأكثر انتشارا لو تحررت من كثافة الشعر، ونبهني شفاهة إلى كثير من الجمل المهمة في النص، أنا لم أعر أهميتها التفاتا. يومها أسعدني رأي دخيل الله، وقلت له على الفور، سأقوم بكتابتها مرة أخرى، وهذا ما حدث حين عدت إلى مقري وجلست في ركني المعتاد، وكتبت «اشتهاء» برؤية جديدة، أكثر نضوجا.
المخرج الراحل كان قارئا حقيقيا، ولم يهب تجربتي التي كانت كبرت حين التقاني، إنما تحدث بلسان قراءته، وكان حديثه مهما. ولعلي أذكر هنا ولأول مرة أن «منتجع الساحرات» تلك التجربة التي أعتبرها مهمة في تاريخي، كانت أيضا رواية أخرى، اسمها: «عواء المهاجر» لم تنتشر كثيرا، وقمت بإعادة كتابتها بناء على آراء لقراء، قرأتها هنا وهناك.
نحن إذن نستفيد من القراء، لذلك شخصيا، أحب القراء، أحب أن ألتقيهم وأتناقش معهم، فقط لا أحب ما أسميه القراءة المغشوشة، التي يدعي فيها البعض أنهم قراء، في حين أنهم بعيدون تماما عن القراءة.
كاتب سوداني