فينيسيا – «القدس العربي»: في أحد المشاهد الرئيسية في فيلم «ما زلت هنا» للمخرج البرازيلي بيتر ساليس، المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان فينيسيا السينمائي (28 أغسطس/آب إلى 7 سبتمبر/أيلول) تقف امرأة يحيط بها أبناؤها في أحد المباني الحكومية مبتسمة، بينما تنهمر الدموع من عينيها في صمت. تحمل المرأة في يد مرتجفة شهادة وفاة زوجها المختفي قسريا من قبل السلطات العسكرية في البلاد، بعد أن أفنت أعواما وأعواما بحثا عنه، أو معرفة ما إن كان قد قُتل أو ما زال على قيد الحياة.
«ما زلت هنا» فيلم مؤثر للغاية، وضروري للغاية، يصور بطش النظام العسكري وما يخلفه الاختفاء القسري من معاناة وألم، لأسرة المختفي، الذين يعيشون تحت وطأة الفقد والخوف. ولكن الأمور لم تكن دوما على هذه الشاكلة. تبدأ أحداث الفيلم، الذي تدور أحداثه في ريو دي جانيرو، في أيام مشمسة على الشاطئ، حيث يمضي الصغار يومهم ويعودون إلى منزلهم القريب من الشاطئ فرحين، إلى بيت يعمه الدفء والضحك واللعب، وتصدح فيه الموسيقى. إنه منزل سعيد تعمه أشعة الشمس ونسيم البحر. لكن العالم الخارجي يتسلل إلى هذا المنزل البهيج، من نبأ ينقله التلفزيون عن اختطاف دبلوماسي سويسري، وعن اعتقال بعض من يطلق عليهم التلفزيون الرسمي البرازيلي عناصر مخربة.
إنه موسم عيد الميلاد عام 1970، بعد نحو ستة أعوام من صعود الديكتاتورية العسكرية إلى السلطة في البلاد، حتى ذلك الحين كانت هذه الأسرة تظن أنها تعيش في أمان، حيث تمضي الزوجة إيونيسي بيافا (فرناندا توريس في أداء متميز) يومها في السباحة، ثم لقاء أصدقاء العائلة، ويمضي زوجها المهندس، وعضو البرلمان السابق، قبل وصول النظام العسكري للسلطة، روبنز بيافا (ستيلون ميلو) يومه في العمل واللعب مع الأبناء ودعوة الأصدقاء للعشاء. في العديد من اللقطات في الجزء الأول من الفيلم نرى المنزل من الخارج، بطلائه الأبيض الناصع والزهور الذي تظله وشاطئ البحر القريب منه. يمكننا القول إن هذا المنزل هو أحد الشخصيات الرئيسية في الفيلم، وإن مصيره جزء لا يتجزأ من أقدار هذه الأسرة، التي ستشهد بطش النظام القمعي وقهره. إنه منزل يتجمع فيه الأصدقاء والأهل والأبناء للسهر والسمر، بيت تنبعث منه رائحة الزهور والطهي المنزلي. ولكن أضواء هذا المنزل ستخبو، وستائره المشرعة ونوافذه المفتوحة للهواء، ستغلق، وأجواء الحميمية والضحك ستختفي حين تحتل الشرطة غرفه وتعبث بمحتوياته، بلا جريرة أو ذنب، بل لمجرد الاشتباه في أنه على صلة مع بعض من يتهمهم النظام بأنهم مثيرو القلاقل ومعادو النظام، تعتقل السلطات روبنز للتحقيق، وإثر ذلك تحتجز إيونيسي وإحدى بناتها للاستجواب. وبعد أيام عصيبة يُفرج عن الأم والابنة، لكن الأب لا يعود إلى البيت قط، وترفض السلطات الإفصاح عن مكان وجوده أو عما إذا كان على قيد الحياة، رغم الضغوط الدولية للإفراج عنه.
يوضح مشهد إلقاء القبض على بيافا قدرة النظم القمعية على تجريد الأماكن من بهجتها في لحظات، وفرض وجودهم الخانق في ثوان معدودات. يقتحم جنود في ملابس مدنية المنزل في وضح النهار، وفي لحظات تختفي بهجة المنزل. يغلقون الستائر فيعم الظلام، وينتشرون في أرجاء المنزل، عابثين بمحتوياته وبخصوصيات أصحابه، بينما لا يفهم الصغار الذين عادوا للتو من الشاطئ لماذا ينتشر هؤلاء في المنزل ومن هم؟
لكن ساليس لا يركز على الفقد، أو على بطش السلطات، بقدر ما يركز على صمود الأسرة وتحديها ووقوفها شامخة رغم القهر والصعاب. لا نرى رجال الشرطة وجواسيس النظام إلا دقائق معدودات، أما تركيز الفيلم فينصب على إيونيسي والأبناء. لا تنهار الأسرة بل تبقى قوية متحدية. مركز هذا الصمود ومنبعه هو إيونيسي، الزوجة التي لا تكل ولا تمل في المطالبة بمعرفة مصير زوجها، والأم التي تعود للعمل والدراسة، حتى تتمكن من إعالة الأسرة. تؤدي توريس دور إيونيسي بمصداقية وتميز كبيرين. رغم الحزن والفقد تلم إيونيسي شتات نفسها، وتبقى مصدر الأمان والاحتواء للأبناء، وتدبر الأمور المادية للأسرة، ورغم حبها لمنزلها في ريو وكل ما عاشته من ذكريات سعيدة فيه، لا تتردد في تركه والانتقال إلى ساو باولو حتى توفر المال الذي تحتاجه الأسرة.
أداء توريس في الفيلم هو السهل الممتنع، فهي مؤثرة موجعة ملهمة بلا تكلف. تلعب توريس، التي سبق لها الفوز بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان، دور الزوجة والأم الأنيقة ببساطة، فهي الأم التي تشتهر وسط الأصدقاء بإعداد حلوى السوفليه الفرنسي بإتقان، وتعد ابنتها للسفر لإنكلترا لمواصلة الدراسة، وتمضي أمسياتها في دعوة الأصدقاء لسهرات منزلية. ولكن حين تتبدل الأحوال وتعتقل السلطات زوجها نرى وجها آخر لها لم نكن لنظن أنه موجود على الإطلاق. نرى جلدا وصبرا وصمودا وقوة وقدرة على التحدي. لا نراها منهارة أو باكية حتى في أحلك الظروف، فهي تعلم أنها إن انهارت سيتشتت الأبناء، وأن في صمودها حفاظ عليهم. رغم بقائها رهن الاحتجاز والتحقيق والتعذيب لعدة أيام، تعود للمنزل رابطة الجأش مصرة على ألا يشعر أبناؤها الخمسة بأي خوف أو قلق. تعمل في صمت لمحاولة بيع قطعة أرض تمتلكها الأسرة لتدبير مستلزمات الصغار، بينما تعد للانتقال لساو باولو وتسعى مع المحامين والمنظمات الدولية لمعرفة مصير زوجها.
في «ما زلت هنا» يقدم ساليس، صاحب فيلم «يوميات الدراجة النارية» عن السنوات الأولى في شباب تشي غيفارا، فيلما إنسانيا وسياسيا في المقام الأول، دون شعارات أو كلمات رنانة. مجرد صمود هذه الأسرة بعد اعتقال الأب فعل تحدٍ للسلطات، وفي قرار الأم دراسة القانون والعمل في مجال حقوق الإنسان رد إيجابي على بطش النظام.