ما سرّ غرام المخابرات العربية بالدراما و«الترفيه»؟

أثار خبر اعتقال الشرطة المصرية «المنتج الفني» ياسر سليم، في قضية تحرير شيكات من دون رصيد لـ«الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية»، مالكة مجموعة «إعلام المصريين» التي تسيطر على غالبية وسائل الإعلام المصرية، تكهّنات كثيرة، فسليم (نائب رئيس مجلس إدارة الشركة) هو ضابط مخابرات سابق، ويعتبر «ذراع» النظام المصري في مجال الإنتاج الفني والإعلام، فما الداعي ليطرد النظام «ذراعه» بهذه الطريقة المهينة؟
يبدو الخبر معاكسا للاتجاه العام للأحوال المصريّة (والعربية)، خصوصاً كون سليم هو الشخص الثاني المطاح به، بعد ضابط مخابرات آخر هو أحمد شعبان، مدير مكتب رئيس جهاز المخابرات العامة أيضا، اللواء عباس كامل (الذي هو مدير مكتب رئيس الجمهورية)، والمسؤول عن «الملف الإعلامي» للنظام، أي أنه الشخص الذي يتحكم في السياسة الإعلامية المصرية، وكان هذا التحكم موزعا سابقا بين مؤسسة الرئاسة وجهاز أمن الدولة والمخابرات الحربية، وإدارة الشؤون المعنوية في الجيش، قبل أن يتم حصرها في جهاز المخابرات العامة، فما الذي عدا عمّا بدا؟
يزداد الأمر تعقيدا حين يُقرأ في سياق قرار إبعاد محمود السيسي، ابن الرئيس المصري نفسه، وكان الثلاثي الآنف، سليم وشعبان والسيسي، يعتبر القطب الأهم في ملف تسيير المخابرات للإعلام المصري. أحد التفسيرات المطروحة لهذا التغيير المفاجئ، أن أجهزة الأمن المصرية تقوم بـ«إعادة هيكلة» للملف والشخصيات المسؤولة عنه، وهذا تفسير لا يفسّر الكثير، لأنه يتجاهل منطق أجهزة الأمن التي لا تعرف عنها تقاليد إعادة تقييم أدائها والإقرار بفشلها، فما الذي يحصل فعلا؟
خضع هذا «الملفّ» لتطوّرات لافتة للنظر يمكن احتساب نقطة انطلاقها مع جملة الرئيس السيسي: «يا بخت عبد الناصر بإعلامه»، والمقصود على الأغلب «عسكرة الإعلام»، وهو أمر بدأ بالتحقق مع تشكيل «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» الذي بدأ بحملة ترهيب وتقييد للإعلام بأشكاله كافة، بحيث تغيّرت الهوية الإعلامية المصرية تماما باختفاء برامج شهيرة واستبعاد مذيعين وفصل مئات الصحافيين وإغلاق مؤسساتهم، واستولت «الأجهزة السيادية» على صناعة المحتوى الإعلامي والدرامي، وصار واضحا وجود رغبة عليا في وجود مالك واحد لجميع الوسائل الإعلامية، وإنهاء عصر سيطرة رجال الأعمال، وتأسيس خطاب إعلامي واحد للأخبار السياسية، وللمنوعات، وللرياضة وللدراما، على أن تكون الغلبة للمحتوى الترفيهي، الذي «يوجه إلى قيم محبة الوطن والقيادة ورجال الشرطة والجيش»، كما تقول إحدى الدراسات.
النتيجة المباشرة خلال السنتين الأخيرتين انخفاض عدد الأعمال الدرامية المنتجة واحتكار جهة إنتاج واحدة تابعة لـ«مجموعة إعلام المصريين» التي تمتلك أغلب شبكات القنوات الفضائية المصرية مثل «سي بي سي» و«الحياة» و«أون إي»، إضافة لمواقع إلكترونية ومحطات إذاعية.

الإعلام كجزء من مهام الرئيس

صار مضمون الأعمال الدرامية تحت رقابة مباشرة من أجهزة الدولة، وقابلا للمنع بدعاوى مخالفة المعايير الأمنية أو الأخلاقية، وهكذا أنتج قطاع الدراما المصري 24 عملا عام 2019 بدلا من حوالى 40 عملا سنويا كما كان جاريا، وكان 15 منها من إنتاج شركة «سينرجي» التابعة للمجموعة المذكورة، والتي تتبع لها أيضا شركة «إيغل كابيتال» للاستثمارات المالية (التي تصفها تقارير عديدة بأنها تابعة لـ«جهة سيادية»)، وبذلك تم تغييب شركات الإنتاج الخاصة المعروفة مثل «العدل غروب» و«بي لينك» وتم توقيف أعمال كبيرة لفنانين مشهورين مثل يسرا وعادل إمام.
تهدف العمليّة برّمتها إلى السيطرة على الإنتاج الدرامي، وإعادة ربطه مركزيا بمكتب الرئيس المصريّ، ولكنّ المتوخّى من العملية ليس سياسيا وحسب، بل يجب اعتباره جزءاً من احتكار أرباح هذه الصناعة، وإضافتها، كما صناعات أخرى كبيرة، كما هو حال قطاع البناء، بالطبقة الجديدة الحاكمة المؤلفة من الضباط المرضيّ عنهم والمحظيين في الجيش والأمن.
تشير «إعادة الهيكلة» للملف الأمنيّ إلى احتمالات عديدة، منها أن هذه الانعطافة الكبيرة التي تمثلها السيطرة على عملية الإنتاج خضّت القطاع الدرامي برمته، كصناعة وشركات وممثلين وحرفيين، ويمكن بالتالي أن تكون قرارات وقف أو نقل ضباط الأمن المشرفين على هذه الصناعة محاولة لاحتواء الأضرار وآثارها، وفي هذه الحالة يمكن إعطاء مصداقية لما قيل عن محاسبة أولئك المسؤولين عن «الفشل».

تجتمع في الشخصية الاعتبارية لتركي آل الشيخ صفات تساهم في تفسير هذه الظاهرة، تبدأ طبعا من الارتباط بشخص الحاكم مباشرة، كتعبير عن المركزية التي تتأسس على المال والأمن والعسكر، وتصل إلى الرياضة و«الترفيه»

الاحتمال الآخر، الذي يحتاج استقصاء وتمحيصا، يمكن أن يفسره الربط الذي جرى بين قرار انتقال نجل الرئيس السيسي للانضمام إلى البعثة المصرية في روسيا، وتدخل الإمارات العربية المتحدة في هذا القرار، الأمر الذي يمكن أن يفسر بعدة اتجاهات، حسب قدرتنا على استكناه طبيعة العلاقة الحالية بين الإمارات ومصر.
قدّمت المسألة في الأنباء أن أبو ظبي قدمت «نصيحة» إلى القاهرة، ولكنّ الطبيعة «الحساسة» للموضوع وللشخص كونه نجل الرئيس المصري شخصيا، تجعلنا نتساءل إن كان الأمر يتعلق فعلا بـ«نصيحة»، أم بتدخل فعليّ في شؤون أجهزة المخابرات المصرية، فمن المعلوم أن «النصيحة» أو «التدخل» يستدعي عملا من طبيعة هرمية، فنحن لا نتحدث عن العلاقة بين المخابرات المركزية الأمريكية وجهاز الإم 5 البريطاني، فكيف وصل الأمر بأبو ظبي والقاهرة إلى درجة تدخل إحداهما بعمل الأجهزة الأمنية للأخرى، وهل بإمكان القاهرة «نصح» أبو ظبي أيضاً بإبعاد هذا أو ذاك من صفوفها أو نقل أحد ضباطها إلى روسيا أو أمريكا؟
وبغض النظر عن آلية العمل بين الجهات السيادية والأجهزة الأمنية يبقى السؤال ضروريا حول سبب الاهتمام الكبير لهذه الجهات والأجهزة بقضايا الإعلام والدراما؟

خصخصة الأمن وتأميم الترفيه

من المفيد، لتوسيع أفق الموضوع قراءة اختلاط الجانبين الأمنيّ و«الفنّي» في ما يسمّى في السعودية «هيئة الترفيه»، فهناك أيضاً هبطت الفكرة من ولي العهد محمد بن سلمان خلال عرضه لـ«رؤية 2030»، ثم تجسدت في مؤسسة كبرى سلّمت لاحقا إلى تركي آل الشيخ، أحد الشخصيات المقرّبة جدا من وليّ العهد، وأصبح أي انتقاد لها سببا لاعتقال المنتقد، كما حصل مع الشاعر حمود بن قاسي السبيعي، وفيصل بن سلطان شيخ قبيلة عتيبة، بحيث تحوّلت «هيئة الترفيه» إلى «جهة سيادية» بصلاحيات أمنية هي أيضا، مثلما كانت «هيئة النهي عن المنكر» قبلها، ورغم الاختلاف المفترض بين الاتجاهين، فإن طرق الزجر والتقريع لمن يواجه الهيئة الجديدة مشابهة لأختها القديمة، ومعارضتها تقود للسجن!
تجتمع في الشخصية الاعتبارية لتركي آل الشيخ صفات تساهم في تفسير هذه الظاهرة، تبدأ طبعا من الارتباط بشخص الحاكم مباشرة، كتعبير عن المركزية التي تتأسس على المال والأمن والعسكر، وتصل إلى الرياضة و«الترفيه»، وحين الأخذ في الاعتبار كونه من سلالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الداعية والوجه الشرعي للمملكة، وننتقل إلى اهتماماته الحالية، من الدراسة الأمنية إلى الرياضة وكتابة أشعار الأغاني و«هيئة الترفيه»، ثم نقرأ عن شروعه قريبا في كتابة مسلسل «بوليسي»، فلن نجد مثالا أكثر تعبيرا عن هذه الخلطة الأمنية ـ الدراميّة.
الظاهرة أكبر من أن نسارع لاستنتاجات فيها، لكننا يمكن أن نضع بعض النقاط التي يمكن العمل على تدقيقها والبحث فيها. يمكننا هنا تلمّس نزعة سلطوية قديمة تتمثل، كما تشرح إعلامية عربية صديقة، في أن السلطة لا تطمح للسيطرة على الأسس المادية لتمكينها، بل كذلك على المخيّلة البشرية لمواطنيها وأحلامهم.
يتحقق ذلك، في رأي السلطة، بالسيطرة على شركات إنتاج الدراما لتوحيد «الخطاب» الدرامي والإشراف المباشر عليه، وليس مراقبته وحسب، وباعتباره قطاعا رابحا فإن هناك عنصر مكاسرة ومنازعة بين الدولة ورجال الأعمال، أو بين رجال الأعمال من فئة الضباط مع نظرائهم من «الدرجة الشعبية»، ولكنّ العنصر الجديد المثير، الذي يجب البحث فيه أكثر هو: هل تجري الآن عملية «خصخصة» لأجهزة الأمن نفسها عبر استتباعها لشركات وأجهزة أمن في الخارج؟

٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    بإنتظار مسلسل باب الحارة بالنسخة المصرية! من الضروري للطغاة دعم الدراما لتخدير الشعوب!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول Tariq:

    مقال رائع جداً استاذ حسام

    كل الشكر

  3. يقول سامى عبد القادر:

    جاء فى متن المقال السؤال التالى: “وهل بإمكان القاهرة نصح أبو ظبي أيضاً بإبعاد هذا أو ذاك من صفوفها أو نقل أحد ضباطها إلى روسيا أو أمريكا؟”
    .
    وهذا سؤال آخر سهل جداً جداً … وإجابته هى: لا, لا يجرؤ ولا يستطيع مغتصب السلطة السفاح السيسى أن ينصح أو ينقل أى شيئ فى الإمارات, ولو كان هذا الشيئ مجرد حلة محشى فى أى مطعم صغير هناك!!
    .
    لأن من يخون بلده وشعبه, ويبيع كرامة وشرف وحرية دولة عريقة مثل مصر, لدويلة صغيرة مثل الإمارات, مقابل أن يجلس على كرسى حكم مُغتصب وزائل وحقير … مثل هذا الكائن الخائن المشبوه لا يستطيع أن يرفع عينه فى وجه أى شخص فى هذه الدويلة … هذه من بديهيات حياتنا الفانية على هذه الأرض

إشترك في قائمتنا البريدية