الاستراتيجية التي اتبعها نتنياهو أمام حماس بهدف إفشال أي فرصة للمفاوضات السياسية بين إسرائيل وقيادة فلسطينية تمثيلية، استندت إلى “مفهوم” ملخصه هو أن “المال سيجلب الهدوء”، لا الأمن فقط. تعزيز قوة حماس يعني إضعاف السلطة الفلسطينية وحسم مصير أي خطة سياسية. بعد تحطم هذا المفهوم، يستثمر نتنياهو جهوداً كبيرة لإنقاذ شيء ما من هذه الاستراتيجية. تصريحه الذي يستبعد إمكانية تولي السلطة المسؤولية عن إدارة القطاع، هو مركب أساسي في هذه الاستراتيجية. ولكن في حين أن نتنياهو يتحمل المسؤولية المباشرة والحصرية عن وضع الاستراتيجية والتعهد بـ “المفهوم”، فقد كان له شريك حيوي، وهو الرئيس المصري.
الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي جعل نفسه وسيطاً حصرياً بين إسرائيل وحماس، والزعيم الذي تم استدعاؤه في كل مواجهة مع حماس ووضع نموذج التفاهمات بين الطرفين، حصل على ظهر هذا المفهوم على مكاسب سياسية كبيرة. لأنه رغم حقيقة أن قطر هي الدولة التي حولت مليارات الدولارات لحماس ومنحت قيادة حماس ملجأ على أراضيها، فإن مصر هي التي وضعت نفسها في مكانة الوسيط، ولم يكن ذلك فقط بفضل سيطرتها على معبر رفح الذي يعدّ أنبوب الأوكسجين الحيوي لحماس والقطاع.
عندما تدير مصر وقطر المفاوضات بين إسرائيل وحماس حول إطلاق سراح المخطوفين، ويثني الرئيس الأمريكي بايدن، على الزعيم المصري ويشكره على جهوده، يصعب التذكر بأن بايدن نفسه أعلن في حملته الانتخابية بأنه “سيضع نهاية للشيكات المفتوحة التي أعطيت للسيسي، الدكتاتور المحبب لدى ترامب”.
كعادته أمام زعماء مرفوضين مثل أردوغان ثم نتنياهو، ينتظر بايدن أربعة أشهر قبل إجراء المكالمة الهاتفية الأولى مع السيسي، كان ذلك بعد نجاح الرئيس المصري في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، والذي أنهى عملية “حارس الأسوار” في أيار 2021. كجزء من اتفاق وقف إطلاق النار، تعهدت مصر باستثمار نصف مليار دولار في إعادة إعمار القطاع، وحتى إنها بدأت تنفذ عمليات إعمار واسعة في القطاع بالتنسيق مع حماس. ولكن أمام المفهوم الإسرائيلي، كان لمصر اعتبارات ثقيلة أخرى وقفت من وراء قرار الاستثمار في القطاع، وجهود الوساطة وبناء شراكة مع حماس.
العلاقات بين السيسي وحماس بدأت بحرب. عند عزل محمد مرسي، الرئيس المصري المنتخب ورجل الإخوان المسلمين، أعلن السيسي حرباً ضروساً على حركة الإخوان المسلمين وحماس (الابن المدلل لحركة الإخوان المسلمين) كما سمتها وسائل الإعلام المصرية. بعد عزل مرسي، عزل السيسي رئيس المخابرات، محمد شحاتة، الذي كان رئيس المخابرات العسكرية تحت إمرة عمر سليمان في عهد الرئيس حسني مبارك وتم تعيينه لإدارة صفقة شاليط مع حماس بسبب علاقته الوثيقة معها ومع التنظيمات الفلسطينية الأخرى، التي رعاها طوال سنوات.
كجزء من تطهير صفوف المخابرات من الضباط الذين شغلوا المناصب تحت قيادة مبارك، كان على شحاتة وبعض الضباط الكبار أن يذهبوا، وتعيين محمد فريد التهامي وعدد من الضباط الكبار الذين كانوا محسوبين على “الجناح الصقري”، والذين طلبوا قطع العلاقات مع حماس، وفعلياً محاربتها التي تراكمت ضدها أدلة بأن أعضاءها اقتحموا سجن النطرون وحرروا منه أعضاء في حركة الإخوان المسلمين، وأنها تعاونت مع تنظيمات إرهابية إسلامية عملت في شبه جزيرة سيناء، وبعد ذلك مع فرع “داعش” هناك.
في شباط 2015 اعتبرت حماس منظمة إرهابية، لكن تم إلغاء هذا القرار بعد مرور أربعة أشهر بسبب “عدم صلاحية المحكمة في اتخاذ قرار في هذا الشأن”. لم يكن هناك شك حول قرار السيسي “تطهير” المنظمة. وقال المتحدث بلسان حماس في حينه، سامر أبو زهري، في مقابلة بأن قرار إلغاء اعتبار حماس منظمة إرهابية: “يمثل التزام القاهرة بدورها المهم في القضية الفلسطينية. لا شك أن هذا القرار سيكون له تأثير ونتائج إيجابية على العلاقات بين حماس والقاهرة”.
تأخرت النتائج الإيجابية؛ وفي السنة نفسها دمرت مصر 3 آلاف نفق كانت تربط بين القطاع وشبه جزيرة سيناء، وأغرقت أنفاقاً أخرى بمياه البحر ومياه المجاري. وسوّت مناطق بعمق بلغ 1.5 – 3 كم على طول الحدود بين القطاع وشبه جزيرة سيناء لمنع دخول أعضاء “داعش” – سيناء، إلى القطاع وخروجهم منه.
اعتبرت إسرائيل مشروع تدمير الأنفاق المصري جزءاً من النضال المشترك ضد حماس. أما مصر فقد اهتمت بالأساس بوقف نشاطات “داعش”. بعد مرور سنتين، في 2017، زار إسماعيل هنية مصر وتم فتح صفحة جديدة في العلاقات بين مصر وحماس، التي تعهدت بـ “حماية الحدود ومنع المس بالأمن القومي المصري”. بعد سنة، وضعت حماس مئات المقاتلين على الحدود مع مصر وفاء بالتزامها بمنع حركة الإرهابيين من سيناء وإليها.
شبكة العلاقات بين مصر وحماس أصبحت بذلك جزءاً لا يتجزأ من سياسة مصر الداخلية في الوقت الذي أصبحت فيه حماس تشكل ذراعاً إضافية في خدمة مكافحة الإرهاب داخل مصر. حماس، التي قطعت علاقاتها مع سوريا في 2012 ولاحقاً مع إيران، وجدت ملجأ دافئاً في قطر وتركيا. ولكن بديل عن العلاقات مع مصر. إلا أن ميزان الاعتماد هذا الذي جعل مصر هي صاحبة البيت في القضية الفلسطينية، ليس فقط في القطاع فحسب بل في الضفة الغربية أيضاً، اقترب من الاهتزاز عندما بدأ التوقيع على اتفاقات إبراهيم.
في الحقيقة، أيدت مصر الاتفاقات من خلال التصريحات، لكن هذه الاتفاقات هددت حصرية مصر كدولة محور بين إسرائيل والفلسطينيين، وبينها وبين دول عربية أخرى لم يكن لإسرائيل أي علاقات معها.
قلقت مصر بشكل خاص من خطة استئناف نشاط أنبوب النفط إيلات – عسقلان، الذي كان سيتم من خلاله نقل النفط الذي تستورده إسرائيل من الإمارات. وحسب التقديرات المصرية، سيقلص هذا المشروع 12 – 17 في المئة من حجم التجارة في قناة السويس، ويقضم مداخيل مصر بشكل كبير.
الأهم هو أن هذه الاتفاقات نزعت من مصر احتكار العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي، إلى أن جاءت عملية “حارس الأسوار” ومعها فرصة للعب دور الوسيط مرة أخرى بين حماس وإسرائيل، وهو الدور الذي اضطرت فيه مصر إلى إشراك قطر، لكن القاهرة عادت لتكون دولة رئيسية في النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين.
لكن هذا الدور جعل مصر تلتزم بالحفاظ على مكانة حماس كسلطة في غزة وكشريكة لها أمام إسرائيل. هكذا، في حين أن إسرائيل كانت تطور مفهوم “المال مقابل الهدوء” بتشجيع من مصر للحفاظ على الهدوء، فقد ضمن هذا المفهوم دور مصر ومكانتها السياسية أمام إسرائيل والولايات المتحدة.
في المقابل، بذلت مصر الكثير من الجهود من أجل التوصل إلى مصالحة بين فتح وحماس لتشكيل حكومة فلسطينية برعايتها، خلافاً لاستراتيجية إسرائيل التي سعت للحفاظ على الانقسام. لم تقم مصر “بخداع” إسرائيل عندما عملت على تعزيز سلطة حماس في القطاع من خلال تقديم التسهيلات، وإعادة الإعمار والمساعدات الاقتصادية. نشأ بين إسرائيل ومصر التقاء مصالح بفضل استراتيجيات متناقضة، تحطمت بضجة كبيرة في 7 تشرين الأول. ليس لدى إسرائيل ولا مصر خطة “لليوم التالي”. ولكنهما ستضطران قريباً لفحص كيفية بناء خطة عمل مشتركة في قطاع غزة بدون حماس، التي استخدمت كمحور يربط بينهما.
تسفي برئيل
هآرتس 27/11/2023