لا أدري ما إذا كان الكاتب الفرنسي فاليري لاربو، في كتابه «في حماية القدّيس جيروم»، هو أوّل من نادى بقيام « دوليّة فكريّة»، وبالعمل من أجل «نقد أدبيّ دوليّ»، كما تقول باسكال كازنوفا في كتابها « جمهوريّة الآداب العالميّة». فثمّة آخرون استشرفوا هذا الأفق وهمْ يتدارسون محتلف الأسباب العلميّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة
والثقافيّة التي يمكن أن تتحكّم في تطوّر العالم الأدبي، وتهيئة الحاضر أو «الحال» كما كان يسمّيه نحاة العرب، للمستقبل. ولم يكن هذا الاستشراف تنبّؤا كما قد يقع في الظن للوهلة الأولى، بل هو مسعًى أو سيرورة أو طريقة ما في إعداد مختلف الإمكانات القابلة للتحقّق، استئناسا ب»المكرور المُعاد» في تاريخ الآداب والفكر. وهو من ثمّة، ينهض على إحكامات وتراتيب وإصلاحات تجري في الزمن على نحو ما تجري مختلف مفارقات الوجود البشري.
وهذا الموقف المحكوم بسيناريوهات واحتمالات سندُه ـ على ما أقدّر ـ الحدس أو المعرفة الحدسيّة.والشعرخاصّة أو الفنّ عامّة معقود في جانب كبير منه على هذه المعرفة؛ بحكم أنّه فنّ لغويّ، ونحن كائنات لغويّة؛ إذ تموّل اللغة كلّ لحظة من حياتنا بما في ذلك زمن أحلامنا. وقد كان الألماني جوته سبّاقا في الدعوة إلى « سوق [ أدبيّة] تُعرض فيها كلّ الأمم سلعها». ولعلّ الشاعر الفرنسي بول فاليري هو خير من أفصح عن هذه الرؤية، منذ الثلاثينات من القرن الماضي، باصطلاحات اقتصاديّة مثيرة. فهو لم يتردّد في استعمال هذا التركيب بالنعت «اقتصاد فكريّ» وفي التوسّل ب»لغة البورصة» على غرابتها في سياق الكلام على الأدب والفكرعامّة إذ يتعلّق الأمر لديه بتثمين القيمة تقديرها. يقول: « قد يلوح من الغرابة بمكان، استخدام هذه اللغة في توصيف العلاقات الفكريّة؛ على أنّي أجدها أدلّ وأنمّ على علاقات من هذا النوع. ومردُّ ذلك إلى أنّنا حين نفكّر في الاقتصاد الفكريّ نجده شأنه شأن الاقتصاد المادّيّ يُختزلُ في صراع على القيم المثمّنة… فمثلما هناك قيمة بترول وقيمة قمح وقيمة ذهب، هناك بالتأكيد قيمة نطلق عليها كلمة «فكر». وأنا أقول قيمة، لأنّ الأمر يتعلّق ب المصلحة تقديرا وحكما، مثلما هو يتعلّق بالمساومة حول الثمن الذي نقبل به…» ويضيف فيلاحظ أنّه بميسورنا، كما يقول رجال البورصة، مراقبة هذه القيمة صعودا أوهبوطا في «جدول الصرف» وسعره، وفي منافستها لقيم أخرى في سوق الأعمال الانسانيّة الكبير ف» الحضارة رأسمال يمكن الاستثمار فيه، وزيادته في كلّ عصر» شأنها شأن رؤوس الأموال والفوائد المستنفع بها. والفكر كالأدب ثروة مثل أيّة ثروة طبيعيّة أخرى، ينهض رأسمالها على قواعد ينبغي العمل على إرسائها تدريجيّا في العقول.
ومن هذه القواعد التي لا يمكن إغفالها كلّما تعلّق الأمر ب»رأس المال الأدبي»، الشرعيّة والمرجعيّة. ومن أطرف ما قرأت في ذلك قول عزرا باوند: « إنّ كلّ فكرة هي أشبه ما تكون بشيك مصرفيّ، قيمته من قيمة مصدره. فإذا ما وقّع المستر روكفيلر شيكا بمبلغ مليون دولار، فهذا الشيك سليم. أمّا إذا أصدرت أنا شيكا بهذا المبلغ؛ فسيكون ذلك ضربا من التهريج والتدليس… وهذا الأمر يشمل الشيكات الصادرة في مجال المعرفة.» فلابدّ إذن من مرجعيّة ومن «ثقة أدبيّة».
هذا « رأس مال» يجدر بنا نحنُ العرب أن نستثمر فيه. وهو من الكونيّة باعتبارها قيمة إنسانيّة تتناسب وثراء الوجود الإنساني أو غناه؛ لأنّها لا تلغي الاختلاف والتعدّد بل تسعى إلى إدماجهما في سياق من التناغم. وليس من العولمة التي هي استيطان مقنّع في أرض الآخر، إذ تقوم على المجانسة والتنميط ومحو تاريخ طويل صرفت فيه الشعوب حياتها، وأفنت مصائرها من أجل إغناء تنوّعها وتطوير اختلافها، وخلافها أيضا.
منصف الوهايبي