ما معنى الغزالي الآن؟

لقد مرّ عقل التنوير من هنا كمحارب أنهكته المعركة، ولو انتصر التنوير لأزاح الظلام، ولما ظهرت الأصولية وملأت الدنيا واستولت على الشارع والمدرسة والجامعة والدولة، ما عجل بتعطيل العقل وحرمانه من جدل التاريخ، وصدمته بأزمــــة الفـــكر العـــربي، الذي عاد إلى دراســـة التراث بالتراث من أجل التراث، فأضحى همـــه الوحيد هو تطبيق تلك المناهج الحديثة على تراث ميت، فجاءت هذه المحاولات الخجولة، لتشكل ما يصطلح عليه بعصر النهضة العربية، التي لم تتجاوز حدود السؤال، «لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ ولم تكن الإجابة سوى تكرار لما روج له الغزالي الذي يرى في الإسلام الحل.
فالنهضويون العرب لم يقدموا للتراث خدمة جديدة، بل عجّلوا بظهور حركات الإسلام السياسي، ثم التنظيمات المتطرفة، ذلك أن جهودهم قامت بتقوية التيار الجهادي بمثل هذه القوة والعنف .كل الشروط في إنتاج المعنى وكيفية انتشاره واستهلاكه من قبل مجتمع الاستهلاك والجهل المقدس، كان سببها تقديس التراث وإدماجه في الحياة اليومية، حتى إن لم يفهم، ما عجّل بانفجار الحركات الأصــــوليــــــة «لو أن التراث العربي الإسلامي تعرّض لمسح تاريخي شامل، ولإضاءة نقديـــة تاريخية شامــــلة، لما حصــــل لاحقا… ونجح التنوير الإسلامي». ونال الصمت من حماس الاستشراق وانطفأت منهجيته الفيلولوجية التاريخية التي قسّمت التراث العـــــربي إلى قطع، من أجل دراسة نجاحه وفشله، ومعرفة كيف ظهرت الفلســـفة في هذا الفضاء، وتألق بعض الفلاسفة العرب، إلى درجة اقتحامهم للإبيستيمي الأوروبي، فابن رشد كان يشكل عقدة الاستشراق، لو أحصينا ما كتب عنه في الأفق الأوروبي، لكانت الصدمة عنيفة، بيد أن الفكرة الأساسية التي تنتشر في هذه الدراسات الرشدية، يمكن صياغتها في سؤال مهم «لماذا فشل ابن رشد في الإسلام، ونجح الأفق المسيحي؟ فهذا السؤال كان قادرا على احتلال مساحة واسعة من منطقة المعنى، وأضحى ابن رشد مجرد وسيط قام بربط أوروبا بتراثها الإغريقي.

حان الوقت لكي يتعلم العقل العربي أن النظام الفكري للحداثة غير النظام الفكري للعصور الوسطى، فالاستمرار في سجن الفضاء العقلي للقرون الوسطى، وإحياء تلك المفاهيم الميتة التي أنتجها فكر التهافت، سيحكم أنطولوجية العقل بالدوران خارج دائرة التاريخ والعلم الحديث.

لا أريد أن أتحدث عن هذا الكسر الدائم الذي أصاب الكينونة العربية، وأرغم العقل على الحداد ورهانات المعنى المبتذل في كلمة العنف والجهاد، ولذلك انزاح العقل العربي عن الثلاثية المشهورة «الترجمة، الشرح، الفلسفة « ليؤسس مع الغزالي وابن تيمية ثلاثية أخرى «العنف، التقديس، الحقيقة»، ولذلك أضحى جدل الفكر مغايرا لجدل التاريخ، بل إن الأمة العربية بدأت تنمو عشوائيا خارج التطور التاريخي. والحال أن الجدل تحول إلى هدف، ولم يعد مجرد وسيلة من أجل إنتاج المعنى والقوة.
لا بد من نقد العقل الجدلي كما تركه الغزالي، وبناء نقد العقل الخالص لكي نتجاوز حرب الخطابات والمناظرات الكلامية، التي أدت إلى شرعية استعمال العنف الجسدي، ما أضعف الأمة وجعلها فريسة للعدو الحقيقي، ذلك أن تحديد مفهوم الحقيقة من جديد وتحريرها من سجن التراث، والسماح للعقل بالبحث عنها خارج الإكراه الأخلاقي والديني، سيؤدي إلى موقفين للعقل «موقف ميتافيزيقي كلاسيكي، وموقــــف ابيستيمولوجي حديث، هكذا سيصبح العقل العربي في طور الانبثاق والتشكل، ويدير ظهره لكل تراكم سلبي أبدعه الفكر الأرثوذوكسي، الذي شرع لإلغاء التاريخية، تاريخية العقل وتاريخية الفكر .
وقد حان الوقت لكي يتعلم العقل العربي أن النظام الفكري للحداثة غير النظام الفكري للعصور الوسطى، فالاستمرار في سجن الفضاء العقلي للقرون الوسطى، وإحياء تلك المفاهيم الميتة التي أنتجها فكر التهافت، سيحكم أنطولوجية العقل بالدوران خارج دائرة التاريخ والعلم الحديث. لا يستطيع الفكر أن يتقدم إلى الأمام والسلاسل تعتقله، ومادام جدل العقل والتنوير تظل أمور الدين يتحكم فيها الفقهاء، وبخاصة أعداء الاجتهاد، الذين حكموا على العقيدة بقواعد دوغمائية ينبغي تكرارها إلى الأبد، من قبل المؤمن من أجل أن يرضى عليه الزعيم. فنواقص هذه القواعد غالبا ما تكون سياسية، وليست دينية.
لم يعد التفكير في هذا العصر ممكنا إلا داخل براديغم القرون الوسطى، ولعل بذور العقل الأسطوري اللاهوتي قد جرّت الفكر إلى أزمة بنيوية من المستحيل حلّها بالتراث، ذلك أن التراث نفسه في أزمة، بعدما فقد تلك المناطق المضيئة فيه، وأضحى سردا كرنولوجيا لتاريخ الإسلام من البداية إلى النهاية، معتبرا أنه يقوم بواجبه المقدس. ومن الطبيعي أن يختصر التاريخ في مفهوم واحد وهو مفهوم الحرب المقدسة، التي تحولت إلى سياسة تسير بها الدولة، وتروج لها بواسطة أئمة المساجد. ولكن ما علاقة كل هذا الانحطاط الفكري بالدين؟ وأين هي أمة المعرفة والعلم ومحبة الحكمة والعمران والأدب؟ ولماذا كل هذا العنف المقدس ضد العقل؟ وما هي أهدافه البعيدة؟

٭ كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول اسامة:

    اذا تم استيعاب فكر و منهج محمد عابد الجابري فسنكون على الطريق الصحيح ..يجب إشاعة أعماله و نتائجه عبر المدرسة و الجامعة لتكوين جيل وطني و نقدي قادر على إبداع حداثة من الداخل تفسح لنا مكانا لائقا في هذا العصر …

    لكن سياسات أنظمتنا يقوم عليها من لا يفهم كيف تُصنع الحضارة ….
    يبقى الأمل في أن يبادر الشباب إلى تكوين نفسه عبر البحث و القراءة و التفكير و النقاش ….و أن يبدأ باسنيعاب و فهم الجابري أولا …لاكتساب الفكر النقدي و الرصانة في التحليل …أي منهج الفلسفة و العقلانية ..

    1. يقول قارئ:

      قيل قول مماثل عن محمد أركون؛
      وقيل قول مماثل عن جورج طرابيشي ؛
      وصدق أو لا تصدق:
      قيل قول مماثل أيضا حتى عن أدونيس ؛
      وما زال العربي “المثقف” يدور في حلقة مفرغة في البحث عن المخلص الفكري !!!

  2. يقول تيسير خرما:

    روح الإسلام بأول نظام حكم مدني بالعالم أنشأه محمد (ص) بالمدينة سماحة وسطية عدالة مكارم أخلاق وحفظ نفس وعرض ومال وأسرة ومجتمع وحروبه تطوعية دفاعية لتحصيل حرية تعبير وحماية مدنيين وليس استعباد وقنص ثروات، ومرجعية الإسلام آيات قرآن نزلت على محمد (ص) بأسباب وظروف نزول كل آية وتصرفاته قولاً أو عملاً تفسيراً أو تنفيذاً لكل آية إضافة لتصرفه قولاً أو عملاً بكل ظرف فاكتمل الدين قبل وفاته، أما قصص تاريخ بعد محمد (ص) ليست مرجع بل يحدد صوابها أو عدمه بنسبة تناغمها أو تناقضها مع روح الدين المكتمل غير المجزأ.

    1. يقول الجزائري:

      صدقت أخي تيسير خرما

    2. يقول قارئ:

      وما زال العربي “المثقف” يدور في حلقة مفرغة في فكرة أن “الإسلام” اكتمل كليا فأعطى الحل الأول والأخير !!!

    3. يقول غسان:

      القرآن هو دستور رباني، والدستور كما هو معلوم هو أعلى مستوى من التشريع، وهو بالتالي يتطلب تشريعات ومؤسسات وسياسات تفصيلية بالإستعانة بهدي: (1) السنة والسيرة النبوية و(2) ممارسات خلفائه الخمسة الراشدين، وأيضاً بهدي (3) العلوم التجريبية المعاصرة (فقه الواقع والمستقبل).

  3. يقول S.S.Abdullah:

    لماذا هناك فرق شاسع، بين ما كتبه (د سعيد يقطين) تحت عنوان (كورونا: التعليم الرقمي)، وبين ما كتبته (مريم دمنوتي) تحت عنوان (نحو قراءة نوعية في الزمن الرقمي)

    ما الفرق بين زاوية رؤية كل منهما، ومن منهما أكثر فائدة، إقتصادياً، للإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية،

    وبالتالي الدولة، في هذا المجال، حتى يستطيع الجميع المنافسة، في أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي الإليكتروني قبل وأثناء وبعد عصر كورونا في عام 2020.

  4. يقول عادل:

    يؤسفني المحتوى المعلوماتي المتحيز في المقال ذي المواقف المسبقة القوية تجاه حجة الاسلام الغزالي وتنويره القرأني والعقلاني . مذهب الحداثة الغربي اصبح سيدي الكاتب -قبل كورونا وخصوصا بعده- منسوخا بمذهب ما بعد الحداثة. مذهب ما بعد الحداثة يسخر من “العقلانية” المدعاة للمذهب الحداثي ويشكك في نموذجه الفكري Paradigm من اساسه، وهو بذلك يقترب من مذهب الشك الذي اسسه الغزالي قبل ديكارت بقرون. ومنذ ادم سميث، فان المذهب الوضعي يستبعد امكانية تحديد الخير والشر الموضوعي من خلال العقل والتجريب، وهو ما اكدته مدرسة الاشاعرة والغزالي منذ قرون.

  5. يقول حسام الحلاق:

    اعتقد ان الكاتب لا يعجبه الغزالي وابن تيمية ويتهمهما بالعنف والتخلف وانه لا يرى ان الإسلام هو الحل فاذا لم يكن بالاسلام توجد الحلول فانا ارى بان اي نظام اخر لن يقدم اية حلول لانها ستكون حلول بشرية قائمة على الهوى ودليل ذلك ما نراه من انهيار اخلاقي وقيمي في الغرب

    1. يقول سنتيك اليونان:

      الى حسام الحلاق
      ما دام الحل موجود لماذا عدم القدرة على تنفيذ الحل لماذا الفشل في التغلب على المصاعب

    2. يقول جواب:

      إسأل عن الإستبداد العلماني

    3. يقول حسام الحلاق الدانمارك:

      لانه لم تعط الفرصة الكاملة للإسلاميين وانا العلمانيين ودعاة الحداثة لا يؤمنون بالحرية أو القيم بل هم فقط حاقدين على الاسلاميين ولا يريدون أن يحكموا ولا يريدون لهذا الدين أن يكون هو خلاص الشعوب

    4. يقول زياد:

      الجواب على سؤالك هو ماحدث في سوريا ومصر من جميع قوى الظلام العلمانية التي ساعدت وتساعد الانظمة في الفتك بالشعوب الاسلامية.

    5. يقول سنتيك اليونان:

      رد
      لما تفهم سؤالي فقط رمية الكره للعلمانيين ok هم احرار يفعلون ما يريدون
      السؤال اللذي لم تجب عليه لماذا الفشل في التغلب على الصعوبات اليس عندك خارطة طريق

    6. يقول سنتيك اليونان:

      رد اخر
      الأعداء كتار العلمانيون الاستعمار الصهاينة الروس العملاء ويمكن من ناس من المريخ. Ok عظيم
      ما جدوى خارطة الطريق التي لم تستطيعوا تنفيذها قد يكون ضروري تعديلها لتتماشى مع العصر

  6. يقول نمار:

    تصحيح للمقال: الاصولية العلمانية هي في واقع الحال التي هيمنت على مختلف الدول (المستعمرة والمهيمن عليها) منذ نحو قرن من الزمن والنتائج ما ترى وليس ما يقال. (بعض) الشارع العربي لايزال يلتزم بأصول الدين لانه محفوظ بأمر من الله. اما المدرسة فأذكر بالبرامج السخية والمتتابعة ل “اصلاح” المناهج الدراسية برعاية الدول المستعمرة ومؤسسات تمويلها الدولي .

  7. يقول حامد:

    النهج القرأني بعد المفكر العبقري الغزالي وقبله هو اعطاء النص والعقل دورهما المكمل دون ان يهيمن اي منهما على الاخر. للنص الدور الابرز كغاية ومقصد للتحسين والتقبيح وتوصيف الحياة الطيبة وتحديد البلد الطيب، وللعقل الدور الابرز في اثبات الخالق ومعرفة وظيفة المخلوق وفي تطبيق مقاصد وغايات الشرع وتأويل نصوصه الظنية من خلال الاجتهاد الفقهي غير المحلق في مسلمات “التنوير” الفارغ.

  8. يقول مؤيد:

    لا عودة الى العصر الذهبي للاسلام بعيدا عن عصور الظلام الاوروبية في القرون الوسطى وفي عصر اوبئة كورونا دون الاستئناس بجواهر القرآن ودرره.

  9. يقول ملاحظة حول الحداثة:

    ما تعبدون من دونه الا “اسماء”.

  10. يقول اضاءة:

    اول كلمة في القرآن هي “اقرأ”، ومردفات العقل والتدبر والتفكر بالمئات في القرأن الكريم بلا مبالغة، وبعد ذلك نطالب بالعقل العلماني؟!

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية