تذكرت «المغنية الصلعاء» وأنا أتابع تفاصيل تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة بعد تسعة أشهر من الانتظار.
لا أدري كيف تعمل الذاكرة، فالذاكرة كالمنام لا منطق لها، تقفز بك من مكان إلى آخر، ومن كلمة إلى كلمة، من دون سبب واضح. الذاكرة والمنام هما أرضية الأدب، هذا لا يعني أن الأدب هو رصف للذكريات، الأدب الرديء يستند إلى الذاكرة فقط، ولا يستطيع أن يتحرر من مؤلفه. ما أردت قوله هو أن الخيال الأدبي يمتلك شكلاً يشبه تركيبة المنام أو الذاكرة، وهو بالتالي يأخذ مؤلفه إلى أماكن جديدة لا يعرفها.
لكن هذا ليس موضوعي الآن، الموضوع هو أن السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهني، لحظة الإعلان عن الحكومة الجديدة، هو أن أسأل عن أخبار المغنية الصلعاء، مع علمي أن لا أحد يمتلك الجواب على سؤالي. حتى يوجين يونيسكو، المسرحي الفرنسي الروماني الذي كتب هذه المسرحية لا يعرف الجواب.
في مسرحية يونيسكو نحن أمام زوجين كهلين وزائرين، وعامل في الإطفائية، وكلام لا معنى له، علينا ونحن نداري ابتساماتنا، بسبب اللحظات الكوميدية في المسرحية، أن نكتشف المعنى الذي يقع خلف الكلام العبثي.
وعلى العكس من زميله في مسرح العبث صموئيل بيكيت الذي كتب مسرحية «في انتظار غودو»، حيث لن يأتي هذا الغودو المنتظر، فإن مسرحية يونيسكو لا تنتظر أحداً. المغنية الصلعاء التي «لا تزال تصفف شعرها بالطريقة نفسها»، لا وجود لها، وإن وجدت فهي لا تملك شعراً تصففه، ومن غير المؤكد أنها مغنية، وهي لا تظهر في مسرحية يونيسكو إلا كسؤال هامشي لا أهمية له على الإطلاق.
أستطيع أن أفترض أنني تذكرت المغنية لأنني لم أنتظرها، مثلما فعل الكثير من الناس في لبنان وهم ينتظرون حكومة الحريري-باسيل- حزب الله وشركائهم. فهذه المرأة قد تكون مغنية صلعاء أو معلمة شقراء كما جاء في نص يونيسكو الأصلي، والذي قام أحد الممثلين بتغييره، عبر زلة لسان، فأعجب المؤلف بالأمر لأنه يضيف طبقة جديدة من العبث على نصه، إلى درجة أنه استبدل عنوان مسرحيته الذي كان في الأصل: «الإنكليزية من دون معلم»، وتبنى المغنية الصلعاء عنواناً.
هناك صراع بين القوى السياسية على النفوذ وتقاسم الحصص، وما لعبة السكاكين والطعن في الظهر إلا أحد تجلياتها.
هذا لا يعني أن النظام السياسي وصل إلى نضج يجعله مؤهلاً كي يكون جزءاً من لغة مسرح العبث، التي صنعها يونيسكو وبيكيت وجورج شحادة وآداموف. كل ما في الأمر أن ما يبدو عبثياً في هذا الانتظار الطويل هو أن النظام اللبناني يختبئ خلف صلعة المغنية التي تصفف شعرها كي يبرر الكارثة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي قادنا إليها.
يجب أن نحلل المظاهر من دون أن ننخدع بها.
نعم، هناك صراع بين القوى السياسية على النفوذ وتقاسم الحصص، وما لعبة السكاكين والطعن في الظهر إلا أحد تجلياتها. واللعبة بسيطة ومعقّدة في آن، ففي ظل تآكل النفوذ السعودي الذي تحوّل إلى عجز عن دعم ما تبقى من فريق 14 آذار، استفرد الفريق الآخر بالموضوع وفرض شروطه. غير أن الأساسي في لعبة الصراع لم يكن سوى تقاسم مواقع النفوذ السياسي والخدماتي والسيطرة على آليات النهب. لقد دار الصراع كله على المواقع، ولم نرَ أي خلاف في البرنامج السياسي- الاقتصادي للقوى المختلفة يبرر كل هذا الضجيج.
الأهم هو أن الطبقة الحاكمة، أي قوى رأسمالية الريوع والمال والاستفادة من الدين العام، هي طبقة يسمح لها الواقع الطائفي والصراعات على مواقع السلطة بأن تبدو منقسمة. إن الشرط البنيوي لهيمنة هذه الطبقة هو الإيحاء بالانقسام وممارسته حين تدعو الحاجة، ووضع لبنان أمام خطر حرب أهلية دائمة ونائمة. هذا الواقع يسمح لها بأن تقسّم المتضررين من هيمنتها وتجعلهم أتباعاً.
غير أن هذه اللعبة وصلت إلى نهايتها، فالأزمة الاقتصادية التي صنعتها هذه الطبقة بجشعها وعدم كفاءتها أوصلت لبنان إلى حافة الإفلاس، وسيُفرض على الحكومة الجديدة القيام بإجراءات اقتصادية تقشفية وبزيادة الضرائب على الطبقات الفقيرة وتصفية القطاع العام، أي القيام بإنقاذ طبقة الرأسماليين، بينما تترك الطبقات الوسطى والفقيرة للإفقار المتزايد.
هذا هو الموضوع، المسألة ليست في عُظامية وزير الخارجية، أو في قدرة حزب الله على التعطيل والتسهيل، أو في فرض التنازلات على الحريري وجنبلاط وجعجع، رغم أهمية هذه العناصر، بل المسألة هي في إيجاد مخارج للتهرب من دفع ثمن سياسات متوحشة عمرها أكثر من عقدين، عبر تدفيعها للفقراء من جهة، والتهرب من مقتضيات بناء دولة مستقلة، لا قدرة للأحزاب الطائفيه على بنائها، لأنها صنيعة الخارج وأداته، من جهة ثانية.
لا نريد المشاركة في مأتم الحريات وتدمير ما تبقى كي نفرح أو نحزن لهذه التركيبة الهجينة التي تصرّف أسيادها بخفة ولا مسؤولية أخلاقية تجاه من انتخبهم وأعاد تسييدهم.
وخلال مرحلة إطالة أزمة تشكيل الحكومة، برزت إلى السطح لا مسؤولية القوى السياسية التي تمثل طبقة الرأسماليين والسماسرة، كما برزت حقيقة أن هذه القوى السياسية لا تستطيع في نهاية المطاف سوى أن تنخرط جميعها في مشروع تدفيع الطبقات الفقيرة ثمن الأزمة الاقتصادية.
لهذا السبب لم نكن متحمسين لتشكيل الحكومة.
لا نريد المشاركة في مأتم الحريات وتدمير ما تبقى كي نفرح أو نحزن لهذه التركيبة الهجينة التي تصرّف أسيادها بخفة ولا مسؤولية أخلاقية تجاه من انتخبهم وأعاد تسييدهم.
نحن أمام أزمة، تبدو مع الغبار السياسي والطائفي أن لا حل لها سوى بمزيد من إفقار الفقراء، فالرأسماليون يواصلون التهرّب من دفع الضرائب رغم أنهم يعيشون في نظام ضرائبي يعفي الأغنياء من دفع ما يتوجب عليهم، كما في كل دول العالم. إن تغييير هذا الواقع لن يتحقق إلّا عبر نضال طويل وشاق.
وهنا يجب أن أعتذر من «المغنية الصلعاء»، لأن هناك فرقاً بين العبث السياسي والفقر الأخلاقي من جهة، وبين مسرح يونيسكو وبيكيت، من جهة أخرى.
الأدب حاول أن يقترب من المعنى، عبر لعبة اللامعنى، أما العبث السياسي فهو يريد تحويل المعنى إلى لا معنى كي يستطيع الاستمرار في سياسة النهب والبَلْص.
بالنرويج فإن الفقير الذي يتلقى مساعدات لا يدفع ضرائب! لكن الضرائب قد تصل إلى أكثر من 50% على الأغنياء!! ولا حول ولا قوة الا بالله
ممتع ككل أسبوع ننتظر كل كتاباتك بشغف بوركت الأستاذ الياس
الحكومة في لبنان لا تغير شيئا من الواقع المعيش فمنذ نهاية الحرب اللبنانية الطائفية إلى اليوم ماذا تغير في لبنان سوى خروج شبيحة المجرم ابن المجرم بشار الكيماوي من لبنان. فالوجوه هي هي والنصب والاحتيال والبلص كما تقول استاذنا الكبير هي هي بل ان اللبناني بات أفقر والدين اللبناني بات اضخم والطائفية تفشت أكثر والولاء لولاية الفقيه بات جليا وماذا بعد..
كاتب المقال لم يشر فقط للبنان وانما كان يكتب عن مجموعة دول عربيه لها نفس الظروف ولديها المغنيه الصلعاء ولو ان الاسماء تتغير في كل موقع . الادهى والامر ان الناخب مع علمه بفساد من انتخبه الا انه ينتخبه مجددا لانه لا يجدافضل منه فكلهم افضلهم سيء او تتحكم به الطائفيه او المذهبيه او الفصائليه