ما وراء القلم

حجم الخط
0

القلم مفردة ساحرة، تحوّل الإنسان من كائن أمي إلى متعلم، من جاهل إلى عالم، من بدائي ليست لديه علوم إلى مفكر وفيلسوف وعبقري. والقلم كلمة مقدسة، كونها قرآنية، ولها آية خاصة بها، ومنها «القلم وما يسطرون». لاحظ معنى «وما يسطرون» وكم يحمل من دلالة كبرى، مفاهيمية وعلمية وجمالية، وما يسطرون، أي ثمة أناس في الحياة والكون والعالم منذ نشأته، ومنذ الكتابات البْدئية الأولى، من المسمارية وانبثاقها في سومر، حيث المسمار بدأ يخط ويدوّن ويحفر أمثولته الأسطورية، منذ ذلك التاريخ، راح يتأسس القلم شيئاً فشيئاً، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه، من تطوّر مذهل في عالم الكتابة، فالقلم ظل مصاحباً لها لقرون عديدة، وقد لازم القرطاس طويلاً، كشقيق وتوأم، يَراع ورُقاع.
كنا صغاراً، حين تسرّب مفعول القلم إلى حياتنا، دخل إلينا ونحن في مطالع حياتنا، أطفالاً في سن السابعة، وربما قبلها بقليل، حين أعطي لنا القلم مصحوباً بالورقة، لكي نتعلم الحروف الأولى، لكي نكتب الحرف ونرسمه لنحفظه. كان القلم هو الأداة، وهو الذي يصنع الكلمات، أقلامنا كانت تُعطى لنا مع الدفاتر والكتب هبة من المدارس التعليمية الحكومية، تُعطينا حزمة من الأقلام، على أنها المؤونة الكافية لمدة عام، لكننا ونحن صغار، كنا لا نعرف الحفاظ على الكمية المُعطاة لنا، فثمة قلم ينكسر، وآخر يتذرّى في المبراة ويذوب، كونه لم يكن من النوعية الجيدة، أحيانا كنا نضرب بعضنا، نحن أطفال المدارس بالأقلام، فتضيع بين الاستعارة والتكسير والهدر مع المبراة.
كان عالمنا جميلاً مع أقلام الرصاص، نكتب بقلم قصير، حتى يكاد أن ينتهي، نستعير القلم من الصحاب، نسرق بعضها من الفتيات في المدارس الابتدائية، أو نكتب للفتيات كلمات حبية، بأقلامهنّ المسروقة في المدارس المتوسطة، المعلم الذي يعلمنا إذا لم نكن نحفظ الدرس، يضع القلم بين أصابعنا ويضغط عليها، حتى نبكي من الألم، بينما هو يضحك أو يزيد من الضغط، لا أحد يحاسبه على هذا السلوك، فهو معلم ويريد منا أن نحفظ الدروس، وإلا كان القلم المُعذّب بالمرصاد لنا.
حين كبرنا قليلاً كدنا ننسى القلم الرصاص، فدخل علينا القلم الجاف، ثم الحبر حين وصلنا الإعدادية، فكانت هناك نخبة من الأقلام المصنوعة للكتّاب وللذين خطهم جميل، أو للمتباهين بالأقلام والناجحين، الذين قد يحصلون على أقلام الحبر كهدايا من الأهل. فهناك قلم «الباركر» و«الشيفر» وبعض الماركات الأخرى، ولكن «الباركر» كان في الصدارة بين أقلام الحبر، تصحبه في الشراء المحبرة، وهي أيضاً تخضع للنوعية الجيدة والرديئة، هناك حبر خفيف، وآخر دسم وثخين، وعياره ثقيل بين أسحم وكحلي وأزرق فاتح.
كنا في الصفوف الابتدائية نستخدم القلم حتى نهايته، وكانت هناك أنواع منه أيضاً، الجيد هو ذو الخشب الوردي، الذي يُدل على أنه من نوع ممتاز، وهناك اللون الخشبي الباهت، وهو بدوره يُدل على قيمته المالية الأدنى. للقلم دور في تحديد نوعية الخط، فالتدرّب عليه سيُحسّن من سيرة خطك، حتى تصل إلى مرتبة القلم الحبر ذي المقام العالي، وذي الرفعة اللونية المُبهجة، يتصدّر الجيب الداخلي للسترة، أو جيب القميص، به زهو ورفعة، وتطلّع نحو مقام وظيفي، أو أدبي، والمقام الأخير بالتأكيد سيؤدي بحامله إلى التأليف والإبداع والكتابة، ولكن هناك محاذير ومخاوف وتوجّسات تلاحق القلم إذا كتب وأنتج وأبدع في مجال ما، هناك الرقابة الرسمية والعمومية، وثمة الرقابة الشخصية التي يولدها العامل الرسمي، متبوعة بخشية العامة من تهمة ما، لعنة ما، من تحريض وتشهير ومطاردة، فالمطاردة والتابو قد يصلان بحمَلة القلم إلى السجن أو إلى القتل، وأقلها النفي القسري والإرادي. ولطالما طورد الكتاب في بلدانهم، ومُنعوا من النشر، أو أودِي بهم إلى عتمة الزنزانات، أو قتلوا بطريقة ما، من شرطة بلدهم ومخبريه وجواسيسه، وهناك أمثلة يشيب لها الرأس، لو ذكرت لغطت كتباً ومجلدات، ومثال الشاعر زهير بن أبي سلمى، ساطع، والشاعر سحيم عبد بني الحسحاس، ماثل، وكذلك مثال أبي حيان التوحيدي والحلاج وابن الريوندي، والسهروردي القتيل الذي قال قبل مقتله «أرى قدمي أراق دمي»، وابن الرومي وأبي العلاء المعرّي والمتنبي الذي قتل في صحراء العراق ليلاً، وابن الخطيب، وابن المقفع الذي أحرق في التنور، قطعاً قطعاً في البصرة، والشاعر ابن الرومي الذي قتل مسموماً في بغداد، والقائمة ستطول لو أحصينا القدامى القتلى من الشعراء والكتاب والمؤلفين، وحديثاً رأينا ما حدث في مصر لطه حسين مع كتابه المثير للجدل «في الشعر الجاهلي» ولعلي عبد الرازق في كتابه « الإسلام وأصول الحكم « ونجيب محفوظ الذي تعرض إلى الطعن بسكين، واعتقال الروائي الشيوعي المصري صنع الله إبراهيم، صاحب «تلك الرائحة»، وعلى شاكلته الكثير من الكتاب والمبدعين المصريين بتهمة الشيوعية، ومثله تعرّض إلى السجن الشاعر قاسم حداد، والشاعر عبد اللطيف اللعبي، واتهام التونسي العفيف الأخضر بالزندقة، واغتيال الكاتب المصري فرج فودة بسبب فتوى دينية، وكذلك سلمان رشدي، وما حصل له من ملابسات واختفاء واعتداء في حياته، وهناك في العراق حوكم الجواهري عدة مرات بسبب قصائده، وافتتاحياته الصحافية، أيام الملكية، وكذلك الشاعر حسين مردان بسبب ديوانه « قصائد عارية « الذي عُدّ في نظر الرقابة الملكية فاضحاً، ويحمل هواجس جنسية، ورؤى عاطفية خليعة، وكذلك هو الأمر مع الرصافي والزهاوي اللذين اتهما بالزندقة، ناهيك عن مقتل وتصفية الكاتب عزيز السيد جاسم في السجن، ومقتل الشاعر العراقي خليل المعاضيدي في السجن أيضا بتهمة الشيوعية في عهد البعث الثاني، ثم حديثاً اغتيال الباحث هشام الهاشمي، والمفكر كامل شياع، وتصفية عدد من الصحافيين والكتاب في عموم العراق الجديد، وفي لبنان تمّ مقتل المفكر حسين مروة، والمفكر مهدي عامل بتهمة الشيوعية، ولقمان سليم بتهمة تجاوز القيم، ناهيكم عن مقتل غسان كنفاني وكمال خير بيك وعلي فودة في بيروت.
هناك مئات الأسماء التي قدّمت نفسها كأضحيات، جرّاء ركونها للقلم كسلاح آخر غير عدواني ومسالم. وطبعاً العصر الحديث في أوروبا لا يخلو من ذلك، ولكن الوقائع أخف وطأة ولا تتعداها إلى القتل إلا في ما ندر، بل ظلت دائرة في المحاكمات والسجن، والمطاردة، والنفي، باستثناء الفترة الستالينية والهتلرية والموسولينية كونها تحتاج إلى مجلدات، لأنها كانت تدور حول فنون الإبادة التي عمل عليها هؤلاء الثلاثة، ستالين الفلاح الشيوعي القروي، وهتلر النازي، وموسوليني الفاشي.
فقبل هؤلاء كانت هناك محاكمات وإدانات، لا تصفيات، من أمثال فولتير رائد عصر الأنوار وإدانته بالزندقة، وموليير وإدانته من قبل القساوسة، وبودلير ومحاكمته بصدد ديوانه المؤثر في تخليق الحداثة الشعرية «أزهار الشر» وحذف بعض الأبيات من ديوانه من قبل القضاة، وهناك الكاتب المثير للمساجلة أوسكار وايلد واتهامه بالفسق والفاحشة، ووالت ويتمان واتهامه بالفجور إبان صدور ديوانه الضخم «أوراق العشب» وعلينا ألا ننسى الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس وسجنه بسبب قصائده المنحازة للعمال وللطبقات الكادحة، ونضاله الطويل ضد الفاشية اليونانية.

كاتب وشاعر عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية