الأرجح أن الفترة المقبلة ستشهد تجاذبات قوية بين المؤيدين للتعديلات والمعترضين عليها، ما سيجعل الانتخابات تبتعد أكثر فأكثر.
أطلق مبعوث الأمم المتحدة لدى ليبيا عبدالله باتيلي الخميس الماضي، مبادرة ترمي إلى جمع الفرقاء الليبيين حول مائدة واحدة، مع التمهيد لهذا الاجتماع بلقاء تحضيري، يتم فيه تحديد ميقات ومكان الاجتماع وجدول أعماله. ويتمثل مقترح باتيلي، في إسناد 13 مقعدا للمجلس الأعلى للدولة ومثلها لأعضاء البرلمان، و3 للمجلس الرئاسي، ومثلها لحكومة الوحدة وللقيادة العسكرية في الشرق خليفة حفتر. وقال باثيلي، الذي جال على هؤلاء الفرقاء، لإشراك الأجسام السياسية في مبادرته، إنه يسعى إلى تحقيق توافق على القوانين الانتخابية، بما يُقرب ليبيا من مخرج النفق.
وقبل أن ينتظر الردود على مبادرته، اتجه باتيلي للمرة الأولى صوب القبائل، سعيا لتحصيل دعمها للحل السياسي، الذي يقترحه على الليبيين. وبدأ اتصالاته بلقاء موسع مع وفد من أعضاء المجلس الاجتماعي لقبائل ورفلة، أحد التجمعات العشائرية الكبرى في منطقة بني وليد (شمال وسط). استمع باتيلي إلى آراء ومقترحات قدمها وفد من المجلس الاجتماعي لقبائل ورفلة، بشأن دفع العملية السياسية قُدمًا، وصولاً إلى إجراء الانتخابات. وبالرغم من أن الطرفين لم يكشفا النقاب عما إذا كانت هناك خطة يعتزمان اتباعها لتحريك المسار السياسي، إلا أنهما أكدا على أهمية الأركان التي ينبغي أن ترتكز عليها العملية السياسية، وهي أن تفضي إلى ليبيا موحدة ومستقرة وذات سيادة.
تم الاجتماع في طرابلس مع الوفد الذي قاده عقيلة نجم رئيس المجلس الاجتماعي لقبائل ورفلة، وهو يعكس قناعة وصلت إليها الأمم المتحدة بأن العنصر القبلي قد يكون دافعا صوب الحل السياسي. وثمة نقطة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى وتتمثل في تأكيد الجانبين على أن العملية السياسية «يقودها ويملك زمامها الليبيون للوصول إلى تسوية توافقية». لكن من تحديدا من الليبيين؟ واستطرادا هل أن اتجاه باتيلي للاعتماد على القبائل يُعوضُ مثلا تغييب الأحزاب السياسية الضعيفة، التي همشتها المبادرة الأممية؟ بالتأكيد الجواب بالنفي، لكن نلاحظ من جهة أخرى أن اللعب على الوتر القبلي، يقوم أحيانا بدور مُهدئ ومُسكن للصراعات. ومن الأمثلة على ذلك أن وجهاء مدينة مصراتة هم الذين حالوا دون اندلاع قتال بين أنصار عبد الحميد الدبيبة والموالين لفتحي باشاغا في طرابلس.
تغييرات اجتماعية
على أن بعض علماء الاجتماع الليبيين، ومنهم الدكتور مصطفى عمر التير، يُقللون من الدور الذي يضطلع به الوجهاء والقادة القبليون في عصرنا الراهن، خاصة وسط التغييرات الاجتماعية التي يشهدها المجتمع الليبي. ويجوز القول إن باتيلي حرص في جولة اتصالاته الأخيرة، على ألا يستثني أحدا من حواراته، التي شملت الحكومة المعترف بها دوليا، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح والقائد العسكري المُنشق خليفة حفتر. واتفق مع كل هؤلاء على «مواصلة الجهود المشتركة لتحقيق الاستقرار» على ما قال، من دون إيضاح طبيعة تلك الجهود. وتكررت في البيانات الصادرة في أعقاب تلك الاجتماعات عبارة «الخطوات الملموسة» وهو ما طالب به سفير الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا، في تصريحات له بعد اجتماعه مع باتيلي. لكنه لم يُوضح ما هي طبيعة تلك الخطوات الملموسة، التي قال إنها ستقود إلى إجراء انتخابات حرة وذات مصداقية.
تكرر هذا الموقف في اجتماع باتيلي مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، مؤكدًا أنه جرى الاتفاق مع صالح على «ضرورة اتخاذ خطوات ملموسة نحو إجراء الانتخابات».
خطاب ضبابي
وتردد صدى هذا الخطاب العام والضبابي في المؤتمر الأول لـ«لمركز الليبي للدراسات ورسم السياسات» في العاصمة طرابلس، لبحث موضوع «الانتخابات الليبية: تحديات الواقع ومآلات المستقبل». ولوحظ أن النائب بالمجلس الرئاسي موسى الكوني اتهم في مداخلة بالمؤتمر، من سماهم «مجموعة من الأشخاص» بوضع العوائق والعراقيل في طريق إجراء انتخابات على أسس قانونية ودستورية غير قابلة للطعن، بغاية البقاء في السلطة. وأوضح أن الغاية من اتفاقي الصخيرات (2015) وجنيف (2020) كانت إجراء الانتخابات، التي اعتبر أنها ألغيت لأسباب واهية وغير مبررة. من هنا يمكن اعتبار وجهات النظر المتباعدة، التي عبر عنها المشاركون في مؤتمر مركز الدراسات، بدءا من المجلس الرئاسي إلى مجلس الوزراء، إلى مجلس النواب، إلى المجلس الأعلى للدولة، والمفوضية العليا للانتخابات، فضلا عن حفتر، دليلا على عمق الخلافات وصعوبة إنجاز توافق حقيقي على المسار السياسي.
وكان مسار الحوار السياسي، الذي جرى في ضاحية الصخيرات المغربية، العام 2015 شمل أطرافا سياسية واجتماعية مختلفة، بينها أعضاء من مجلس النواب، كانوا فاعلين رئيسيين في عملية التحول الديمقراطي العويصة والمعقدة. وهؤلاء النواب تم اختيارهم من خلال انتخابات حرة ونزيهة، نظمها وأقر بها المؤتمر الوطني العام (برلمان انتقالي) الذي قام بإدارة العملية الانتقالية لما يربو عن عامين، وكذلك المجلس الوطني الانتقالي، الذي قاد البلد خلال المراحل الأولى للانتقال. وقدم أعضاء من هذه الهيئات التشريعية الثلاث مساهمات مهمة في عملية الحوار، وقد أدت إلى إبرام الاتفاق الذي بات يُعرف بـ«اتفاق الصخيرات». كما شاركت فيه أطراف مستقلة معنية بالمسار السياسي، فيما قدمت التشكيلات المسلحة والمجالس البلدية والأحزاب السياسية وقادة القبائل والمنظمات النسائية، مساهمات إيجابية وبناءة خلال مسارات أخرى، بغية تحقيق مصالحة شاملة ومستقرة.
والجديد في هذا المضمار أن مجلس الأمن طلب من المؤسسات المحلية إشراك المبعوث الأممي باتيلي «مشاركة كاملة» في أي مفاوضات يقودها الليبيون. كما حض المجلس على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة وشفافة وشاملة، «من شأنها أن تُفضي إلى حكومة ليبية موحدة».
ولفت عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني إلى أن المبعوث الأممي يرى أن الانتخابات، حتى وإن جرت بالقانون الانتخابي المعدل، «ستصطدم بالأطراف نفسها، التي تسعى للبقاء في سدة الحكم، ولن تسلم السلطة لمن يتم انتخابه» ناقلا عن باتيلي قوله إنه لابد أن يكون هناك اتفاق سياسي بين مجموعة الـ5 كما سماها (مجلس النواب والمجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة وحكومة الوحدة الوطنية والقيادة العامة/ حفتر) وهو ما يراه الكوني أمرا شديد الصعوبة، لأن من المستبعد أن «يتفق النقائض، الذين لا هدف لهم سوى الاستمرار في السلطة، وتقلد رئاسة الدولة» حسب ما قال. وأكد الكوني أن الأجسام المختلفة الموجودة اليوم أصبحت هي المعرقل للاتفاقات، مُعتبرا أن الانتخابات، التي كانت مقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 2021 ألغيت لأسباب واهية وغير مبررة، مشيرا إلى أن أعضاء حكومة الوحدة الوطنية لم يأتوا لتسلم السلطة وإنما لتسليمها، بعد توحيد مؤسسات الدولة وتنظيم الانتخابات، حسب قوله.
أما رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة فأوضح في كلمة له خلال مؤتمر مركز الدراسات، أن الجميع متفق على الحاجة إلى إجراء انتخابات عادلة، على أسس قانونية ودستورية غير قابلة للطعن، يتساوى فيها الجميع، ويتفق على القبول بنتائجها، على ما قال، من دون أن يُوضح ما هو الطريق إلى تلك الانتخابات.
والمؤكد أن باتيلي بات على يقين، بأن الطريق إلى هكذا انتخابات، تتطلب خطوة تمهيدية تتمثل في اجتماع الفرقاء حول مائدة واحدة. ولم ينتظر ردود الفعل على فكرته، بل سارع الخميس الماضي، إلى دعوة قادة الأطراف المؤسسية الرئيسية في ليبيا، إلى المشاركة في اجتماع قال إنه سيعقد في الفترة المقبلة، بغية التوصل إلى تسوية حول القضايا مثار الخلاف السياسي، المرتبطة بتنفيذ العملية الانتخابية. ولم يُحدد باتيلي ميقات الاجتماع ومكانه، وهي مسائل لا تُعتبر بروتوكولية بل جزءا من جوهر الاجتماع. وتمهيدا للاجتماع الموسع، دعا باتيلي إلى اجتماع تحضيري يُحدد فيه الزمان والمكان وجدول الأعمال، إضافة إلى المسائل العالقة، التي يتوجب حلها لتمكين المفوضية الوطنية العليا للانتخابات من الشروع في تطبيق قانوني الانتخابات الصادرين عن مجلس النواب.
وتنطلق مبادرة باتيلي من قناعة مستجدة، بأنه صار لليبيا لأول مرة، منذ خمس سنوات، إطار دستوري وقانوني منظم للانتخابات. ولوحظ أنه حض المجلس الاجتماعي لقبائل ورفلة على تحمل مسؤوليتهم كمواطنين وقادة اجتماعيين، بُغية المساهمة في خلق بيئة مواتية لإجراء انتخابات سلمية، في ظل حكومة موحدة. لكن مثل هذه الدعوات للحوار بين الفرقاء، كان يمكن أن تصدر عن الليبيين أنفسهم من دون انتظار الأمم المتحدة. والعجيب أن المبادرة الأممية الجديدة أتت في أعقاب لقاء جمع رئيسي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في القاهرة.
وإذا ما علمنا أن منتقدي باتيلي يأخذون عليه كونه يتفادى تسمية المعرقلين للمسار الانتخابي بالاسم، والمتمثلين في مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، ندرك أن الحوار الذي يدعو إليه لن يحل العقدة، وإلا لتفاهم عقيلة وتكالة من دون حاجة إلى إشراف الأمم المتحدة أو وصايتها.
غضب فزان
أول الردود الرافضة للطرح الأممي الجديد أتت من إقليم فزان (جنوب) الذي اعتبر ممثلوه في مجلسي النواب والدولة، أن المبادرة المطروحة من البعثة الأممية للدعم تُهمّش إقليمهم وتقصيه. ورأى ممثلو فزّان، في بيان صحافي، أنهم في المرحلة الراهنة في أمسّ الحاجة «لأن تكون فزان طرفا أساسيا وشريكا أصيلا كبقية الأطراف في المشهد الليبي».
وتمثلت الحصص التي أسندها مقترح باتيلي لتمثيل الأجسام السياسية في منح المجلس الأعلى للدولة 13 مقعدا ومثلها للبرلمان، و3 مقاعد للرئاسي و3 لحكومة الوحدة و3 للقيادة العسكرية في الشرق (حفتر). أما القوانين الانتخابية التي أصدرها مجلس النواب، بعد التخلي عن شروط الترشح القاسية السابقة، فنصت على أحقية مزدوجي الجنسية في الترشح للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. كما لا تستبعد شروط الترشح العسكريين، فيما ينص أحد البنود على تقديم كافة المترشحين لإقرار بالاستقالة من مناصبهم، مع إمكانية العودة إليها في حال الفشل. وأتاحت تلك التعديلات تجاوز الحواجز أمام أشخاص بعينهم، وفتح الطريق لطيف أوسع من الشخصيات السياسية والعسكرية للترشح لمنصب رئاسي أو برلماني. كما تنص القوانين الانتخابية على إجراء الانتخابات العامة خلال 8 أشهر من تاريخ صدورها، وذلك في ظل حكومة جديدة تضمن نزاهتها.
ووفق القانون المعدل، ستُجرى جولة الانتخابات الرئاسية الأولى بالتزامن مع انتخابات مجلس النواب، في حين ستجرى الثانية بالتزامن مع انتخابات مجلس الشيوخ. وفي حال فشل الانتخابات الرئاسية تعد العملية الانتخابية برمتها كأنها لم تكن. ويمنع القانون رئيس الحكومة الجديدة وأعضاءها من الترشح للانتخابات الرئاسية. غير أن المعترضين على التعديلات قد يُطيحون بها، وتعود الأمور إلى المربع الأول. لذا فالأرجح أن الفترة المقبلة ستشهد تجاذبات قوية بين المؤيدين للتعديلات والمعترضين عليها، ما سيجعل الانتخابات تبتعد أكثر فأكثر.