مبدأ المقاومة يهزم مشروع الثورة المضادة

حجم الخط
2

من الذي زين للاسرائيليين التورط بشن حرب ضد غزة؟ وكيف فشلت اجهزة استخبارات العدو في تقييم الموقف واعتقدت ان بامكان الجيش الاسرائيلي تحقيق ما لم يستطع انجازه قبل خمسة اعوام؟ امور عديدة تميز المشهد العربي بين حقبتين تفصلهما خمسة اعوام، وهو تمايز ساهم في تشجيع بنيامين نتنياهو للاسراع في «اغتنام الفرصة»، ولكن سرعان ما اتضح خطأ تقديرات الاستخبارات الصهيونية وساسة تل أبيب، فسارعوا ومعهم داعموهم في واشنطن ولندن وعواصم عربية للدعوة لوقف اطلاق النار حفاظا على سمعة «الجيش الذي لا يقهر». ولكن برغم خطأ التقديرات الاسرائيلية، فان المشهد العربي عشية العدوان الحالي على غزة كان حقا مغريا لمن يريد ان يصفي حساباته مع اي طرف عربي او اسلامي.
فلم تشهد الامتان العربية والاسلامية حالة من الشتات والتمزق والاحتراب الداخلي والاستقطاب السياسي والعرقي والمذهبي كما شهدته في العامين الاخيرين. فما سر قدرة اهل غزة على التصدي لعدوان كاسح لم يوفر قادته أي سلاح مدمر في حرب كانت تبدو «مضمونة النتائج» لان طرفي النزاع غير متكافئين في القوة الذاتية او الدعم الخارجي؟ الامر المؤكد ان رئيس وزراء الكيان الاسرائيلي، ومعه مستشاروه الامنيون والعسكريون، كانوا يعتقدون ان سحق «حماس» و «الجهاد الاسلامي» نتيجة مضمونة بسهولة وسرعة وبدون خسائر تذكر. فأين الخلل في تقديراتهم؟ وكيف ستنتهي الجولة الحالية من العدوان الكاسح الذي يغوص قادته في الوحل يوما بعد آخر؟
جاء العدوان الاسرائيلي على غزة عام 2008 في اوضاع عربية مختلفة عما هي عليه الآن. يومها لم يكن قد مضى على حرب 2006 سوى 42 شهرا، وكانت الشعوب العربية والاسلامية تعيش نشوة النصر الذي كان الاول من نوعه منذ الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين في 1948. لم يكن هناك من انظمة رسمية او قوى شعبية من يجاهر بالعداء للمقاومة او التحالف مع الاسرائيليين. بل خرجت المسيرات في دول عربية عديدة لدعم المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، وكتبت المقالات والقصائد للتعبير عن روح النصر التي سرت في اوصال الامة. وبرغم ما كان يجري في العراق من حمامات دم ومحاولات مستمرة لاذكاء الطائفية، فقد كانت حقنة النصر اللبنانية كافية لمنع انتشار ذلك الداء في جسد الامة. ولذلك فحين شن العدو الاسرائيلي عدوانه على غزة عام 2008 وقفت الامة داعمة لاهل فلسطين وداعية لهم بالصمود والنصر. السعودية وحدها وقفت ضد «حماس» واتهمتها بـ «المغامرة وجر المنطقة الى الويلات». كان المقاتل الفلسطيني يستمد جانبا من قوته وصموده من المشاعر العميقة بحتمية النصر بعد ما تحقق في 2006. كان المشهد بشكل عام ايجابيا لصالح المقاومة التي خرجت الاحتجاجات والمسيرات في اغلب العواصم العربية لدعمها. ولكن المشهد الذي سبق العدوان الاسرائيلي الحالي مختلف تماما. فقد استطاعت قوى الثورة المضادة قلب ذلك المشهد تماما، بعد ان انقلبت على الثورات العربية واجهضتها وسعت لاحداث تغيير في اللاشعور العربي بعدم جدوى السعي للتغيير السياسي او التصدي للاحتلال الاسرائيلي. ويتألف تحالف قوى الثورة المضادة من كيانات سياسية قلقة من صعود تيار التحرر العربي والاسلامي جمعتها مصالح مشتركة تتصدرها الرغبة في القضاء على ما تسميه «مجموعات الاسلام السياسي» التي كانت تبدو المستفيد الاكبر من انتصارات المقاومتين اللبنانية والفلسطينية. ومنذ عقود كان الغربيون وحلفاؤهم العرب ينظرون لقضية فلسطين انها مصدر الوعي السياسي ومنطلق المشاعر الثورية، وان من الضروة بمكان غلق ملفها لمحاصرة وعي الشعوب وازالة دوافعها للتمرد على انظمة الحكم القائمة.
منذ الاسابيع الاولى لانطلاق ثورات الشعوب العربية في 2011 بدأ تحالف قوى الثورة المضادة يخطط لاستهداف المجموعات المذكورة بعد افشال تلك الثورات. واستخدمت سلاحين مدمرين جدا: الارهاب والطائفية. وما ان تمت هندسة اوضاع الدول التي حدثت فيها الحراكات الشعبية حتى اصبح الوضع مهيأ للمزيد من الهندسة السياسية التي تهدف لغلق ملف القضية الفلسطينية. ونظرا لغياب وعي قيادات العمل الاسلامي المرتبط بمجموعات الاسلام السياسي، تمكنت قوى الثورة المضادة من نشر ثقافة الكراهية والعنف والتشطير وفق خطوط الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية بمعدلات غير مسبوقة. بل ان بعض الرموز الاسلامية والوطنية استدرج لمسايرة الاطروحات المذهبية والارهابية، بشكل مقزز جدا. لم يكن متوقعا ان تصبح تلك الرموز ادوات بايدي قوى الثورة المضادة فتصرح وتتخذ المواقف غير المسؤولة وتتبنى سياسة التكفير وتدعم مجموعات التطرف والعنف من منطلقات طائفية.
ومن اكبر ضحايا تلك الحملة المسعورة مصطلح «المقاومة» وما يرتبط به من تحالفات وعلاقات داخل المنظومة الاسلامية. الوضع العربي اذا كان مستقطبا بشكل واضح ضد محاولات التغيير السياسية او الترويج لمقولات المقاومة والتصدي للاحتلال. وتم تجنيد وسائل الاعلام التابعة لقوى الثورة المضادة لترويج ثقافة الكراهية ضد مجموعات المقاومة والاسلام السياسي، واعتقد من انساق وراء ذلك انه يساهم في مشروع اصلاح ديني جديد، وغاب عن الكثيرين ان المبالغة في الحديث عن «مجوسية» ايران او «رافضية العراق، او «فساد حكم الاخوان» او «تطرف حماس» او «طائفية حزب الله» انما هي جانب من خطة الانقضاض على جميع المطالبين بالاصلاح او التغيير او التحرير. فوفقا لمنظور قوى الثورة المضادة لن يكون الشرق الاوسط المستقبلي مضمونا لها، الا بانهاء حقبة «الصحوة الاسلامية» التي ادت الى قيام الثورات وتنامي المقاومة وتعمق روح التحرر والتحرير لدى شباب الامة. ونظرا للحالة الدينية السائدة في مجتمعات المنطقة، كان لا بد ان يكون البديل ذا صبغة دينية ايضا، فجاءت مجموعات التطرف الديني ممولة ومسلحة من قبل تلك القوى المتوفرة على وفرة مالية غير محدودة. قوى الثورة المضادة سعت لتغيير المزاج السياسي العربي والاسلامي بعيدا عن قضايا الحرية والتحرير، وتوفير بديل ديني لمجموعات الاسلام السياسي. ويعتبر المشروع الداعشي من اهم البدائل التي طرحت حتى هذه الساعة لاستقطاب الشباب المسلم من كافة اقطار الارض والزج به في طواحين حروب عبثية تنخر في جسد الامة لتمزقها وابعادها عن القضايا الحقيقية المرتبطة بالحريات العامة والقضاء على الاستبداد والفساد او التصدي للاحتلال والهيمنة الغربية.
مخططو الحرب على غزة هذه المرة ارادوها الحلقة الاخيرة في مسلسل ضرب مشاريع الاصلاح والتحرير، وإكمالا لخطط حصار مجموعات الاسلام السياسي (كما حدث للاخوان في مصر وتونس) والمقاومة (كما حدث لحزب الله اللبناني). وتمت هندسة الوضعين العربي والاسلامي بالشكل الذي يحاصر حماس والجهاد الاسلامي ويمنع التعاطف معهما اذا ما تعرضتا لضربة اسرائيلية مركزة. وبانتهائهما ستكون قوى الثورة المضادة قد قطعت شوطا مهما على طريق تطويق ظاهرة الصحوة الاسلامية التي افضت الى ثورات الربيع العربي. كان أمل هذه القوى ان يتم التخلي عن مجموعات المقاومة من قبل الجهات التي دعمتها سابقا، خصوصا ايران وحزب الله اللبناني. ولكن الذي حدث مختلف تماما، فقد صمدت المقاومة حتى الآن، واتضح ان الخطط التدميرية لم تحقق نجاحا كاملا، وان المقاومة ما تزال متواصلة في ما بينها ومتجاوزة المعوقات المذهبية والسياسية. كانت مفاجأة العدو الاسرائيلي كبيرة حين اكتشف ان حماس والجهاد الاسلامي تمتلكان من التكنولوجيا العسكرية المتطورة ما جعلهما قادرتين على قصف اقصى المواقع الاسرائيلية في حيفا ويافا وتل ابيب. واتضح كذلك ان الاسرائيليين لم يحققوا نجاحا كبيرا في اسقاط صوارخ المقاومة الفلسطينية، وان نسبة نجاحهم لم تتجاوز الربع. بل ان خسائر الاسرائيليين تجاوزت حتى الآن ما فقدوه من جنود في حرب 2009. فبرغم تغير المشهد السياسي العربي وخريطة التحالفات وتصاعد الفتنة الطائفية واختلاق الازمات بين فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وبث مجموعات الفتنة والتكفير والطائفي والارهاب، الا ان حصيلة العدوان ليست مشجعة لداعميه ومشجعيه.

٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

د. سعيد الشهابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    هناك فرق بين الاسلام السياسي المتقبل للعبة الديموقراطيه كالاخوان
    وبين الاسلام المتشدد والرافض لأي انتخابات كداعش
    وبين الاسلام التابع لولاية الفقيه كايران

    فعن أي اسلام كنت تقصد يا دكتور سعيد

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول م. حسن هولندا:

    السلام الذى لة أسنان لوقف القتل الذى لاينتهي . محكمة الجنايات الدولية في لاهاى وظيفتها محاكمة مجرمي الحروب . المقاومة آخر الحصون أمام محتل باغ لا يحترم لا قوانين الأرض ولا السماء . يرسلون جنودا في العشرينات يكرهون الموت الي مقتلة ضد مقاومين محاصرين بالزاوية أشدأ . السلام القائم علي العدالة الدولية وعلي الحق في الحياة . هل القضية سلام أم سلاح ؟ مجانين الحروب وتجار السلاح يحركهم الطمع والغضب والجهل . فلماذا عدم الذهاب الي قصر السلام في لاهاى ؟. .

إشترك في قائمتنا البريدية