بعض الإشكاليات تمتلك من الغواية ما يهيئ لها فرص الحضور المتجدد في المشهد. إنها وبقوة هذه الغواية، تتمكن من إغناء إوالياتها، متفادية بذلك احتمال تعرضها لقدر البلى المفضي لبؤس الغروب. ولعل معادلة الشكل والمضمون، من بين هذه الإشكاليات الأكثر قابلية لاستقطاب المزيد من المقاربات، التي تسعى كل من جهتها، إلى تسليط الضوء، على ما يبدو بالنسبة لها مغيبا في عتمات اللامفكر فيه.
وفي اعتقادنا أن آلية اشتغال هذه الإضاءة، ستتجسد في قناعتنا بجدوى تجاوز سكونية الأنساق الثابتة، التي غالبا ما تحقق استمراريتها بمراوحتها الدائمة في المقولات ذاتها، بصرف النظر عما يمكن أن يتخلل هذه المقولات، من تباينات وتنوعات جزئية وثانوية. ذلك أن النسق الثابت، غالبا ما يكرس «مشروعيته» التداولية، من حرصه على مراكمة الخلاصات القارة، في صيغة مسلمات، تقيها من خطر التعرض لأي تفكك محتمل، باعتبار أن قدرة النسق على الإقناع، تعود أساسا إلى قدرته على إيهام القراءة بتماسك وتفاعل حلقاته، بما يساهم في تنشيط قيمته التداولية.
وهو التصور الذي يصدق على ما أفرزته وتفرزه تباعا، معادلة الشكل والمضمون، من أنساق مقولاتية، تحرص على مراعاة ما أمكن من الانسجام بين مكوناتها، من خلال تفاديها الخوض في الإشكاليات المستحدثة، والمخلة بشرط استمراريتها. وتوصيفنا لثنائية الشكل والمضمون بالمعادلة، هو في واقع الأمر، قول بمسلمة ثنائية لا سبيل لإنكارها، لكونها التجسيد الفعلي للضوابط المعتمدة عادة في تصنيف المدارس والمذاهب الفنية والإبداعية، باعتبار أنها تحيل بشكل أو بآخر، على ثناية الداخل والخارج، بما هي ثنائية هندسية متكاملة، وقابلة في الوقت نفسه لأن تكون متعارضة. يحدث ذلك حالما يتفرد كل من طرفيها باستقلاليته الخاصة، ما يؤدي إلى تعدد مستويات العلاقة القائمة بينهما. فرب خارج مغرق في جماليته، يكون قابلا لأن يتضمن أنماطا متعددة من الدواخل المتباينة، من حيث خاصية جمالها أو قبحها. والشيء نفسه يصدق على الخارج، الذي يحدث أن يكون مفتقرا إلى الحد الأدنى من الشرط الجمالي، مع احتوائه لداخل أكثر فتنة وبهاء. وهي إحالة، تعمق لدى الملاحظ الإحساس بالتباس ظاهرة احتواء الشكل الخارجي، للمضمون الداخلي.
ومن الممكن مقاربة هذا الإشكال، من خلال ثنائيات جد متداولة، من قبيل السمت الطيب، الذي قد يتنكر به الشر، بما هو ثنائية ظاهر مرئي، متعارض كلية مع باطنه اللامرئي. إلى جانب ثنائية الوجه والقناع، التي يأخذ فيها هذا الأخير شكل حجاب، يخفي مضمونه. وهو الوجه المستقل هو أيضا بمضامينه الخاصة به. الشيء الذي يساهم في توسيع الهوة الفاصلة بين الدلالة الخارجية، ومجموع ما يحتجب وراءها من دلالات. فالمرئي هنا، فضلا عن كونه بنية قائمة الذات، إلا أنه في الوقت نفسه، عتبة تفضي لعوالم يستحيل التكهن بآليات تشكل مضامينها. فشكل القناع الماثل أمامنا، الذي يخيل إلينا أنه يتحدث بلغته المنسجمة مع لغة ملامحه، من المحتمل أن يكون بصدد إخفاء شكل داخلي تتعارض لغته تماما مع اللغة المعلنة في الخارج، مع التذكير بالنسق العام الذي ينتمي إليه القناع بوصفه هو أيضا، مجرد حالة عابرة ومؤقتة، ضمن سيرورة مستدامة لسلسلة لا متناهية من الحالات، التي يمكن أن تجد تعبيرها في ما لا حصر له من الأقنعة.
ومن الممكن مقاربة هذا الإشكال، من خلال ثنائيات جد متداولة، من قبيل السمت الطيب، الذي قد يتنكر به الشر، بما هو ثنائية ظاهر مرئي، متعارض كلية مع باطنه اللامرئي. إلى جانب ثنائية الوجه والقناع، التي يأخذ فيها هذا الأخير شكل حجاب، يخفي مضمونه.
نخلص من ذلك إلى أن الملامح اللامرئية، التي يتحدث بها الخطاب إلينا، ليست في واقع الأمر، سوى لحظة تشي باحتمال انبجاس سلسلة لا متناهية من الحالات/ الأقنعة، المؤشرة إلى وجود نقائضها الموجودة في باطن القناع. وبالتالي، فإن الاغتباط بالتملي في وجه الملاك، قد يؤول إلى خيبة أمل، فور إعلانه الفوري عن حقيقته الفعلية بوصفه شيطانا، كما هو معبر عنه في المخيال الشعبي، على غرار الذهب الإبريز، الذي سيتأكد لاحقا للرائي، بأنه ليس في واقع الأمر، سوى بقايا قطع متفحمة. كما أن البياض الحليبي للكفن، ليس عدا حجاب تتدثر به جثة آيلة لتحللها، دون إغفال الإشكال المؤرق، الكامن في ثنائية «اللفظ» بوصفه «شكلا» و»معناه» بوصفه «مضمونا» حيث تتشعب وتتفرع مسالك تفسير، وتأويل حدود التطابق والتنابذ القائمة بينهما. وهي الثنائية التي تعد من بين أكثر المداخل إغراء للبحث في جوهر اللغة، وجوهر الكلام، أي ذلك الأصل المنفلت الذي يتعذر على المشائين تعقب أثره، جراء وجوده خارج ما هو عيني وملموس. وهو السياق الذي تبادر فيه سلطة المتخيل، باقتراح حل ممكن لهذا الإشكال، خاصة في أفقه الميتافيزيقي، انطلاقا من المقولات المؤطرة لعلاقة اللفظ بالمعنى، خاصة منها تلك المتعالية، التي لا دخل للعقل البشري فيها «وعلم آدم الأسماء كلها». مع التذكير بأن المخيال وبحكم طاقته التأويلية، لا يتردد في الاحتماء بالمتعالي مباشرة، كلما ضاقت به سبل اجتراح العلاقة الصعبة، القائمة بين الشكل والمضمون.
غير أننا سوف نلمح في الجهة المضادة للمتعالي، محاولة التخلص من محنة هذا العجز، ومن محنة المطاردة العبثية للجواب، بتشغيل منطق الإنكار التام لأي علاقة بين اللفظ والمعنى، كي تظل ماثلة للعيان، تلك الفجوة الغامضة والحاضرة بقوة، بين حقيقة اللفظ باعتباره شكلا، وحقيقة معناه، باعتباره مضمونا.
ولعل حضور هذه الفجوة، هو الذي يغري الرؤية القداسية بتسريب خطابها إلى عمق منهجية التأويل، كي تضفي هيبة استثنائية على تلك الحلقة الواصلة بين الدلالة المشتركة القائمة بين طرفي المعادلة. والشيء نفسه يصدق على الرؤية البراغماتية، ما دامت كل قناعة، تحيل بشكل أو بآخر على مؤشرات نقيضها.
لكن ثمة أيضا، منهاجية التخلص من تعقيدات هذه العلاقة، بالاقتصار على التساؤل عن الوظيفة التي يضطلع بها اللفظ في التعبير عن دلالة ما، لتحتل بذلك مسألة الكشف عن الدلالة مقام الأولوية، بصرف النظر عن طبيعة العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى، وبتعبير آخر بين شكل ما، ومضمونه.
والإشكال نفسه، يمكن معاينته في ظاهرة التنوع الخطي، الذي تتعدد دلالاته الذاتية بتعدد تشكيلاته الحروفية، بصرف النظر عن القول المثبت فيه، حيث تطالعنا صعوبة البث في علاقة الدلالة الشكلية للخط سواء في ذاتها، أو في ترابطها مع دلالة القول، باعتبار أنها ليست خاضعة لقانون واضح ومعلوم، بقدر ما هي وليدة تحولات وإضافات دلالية، تتتإلى على امتداد الزمن، حيث سيتعذر علينا ضبط خصوصية اللحظة التي أدت إلى شحن جمالية الخط بأبعادها الجديدة، بما تفيده عملية الشحن من تصويب وتجويد وتحوير. بمعنى أننا حينما نقارب التشكيل الحروفي ضمن هذا الإطار، يتحول إلى مجرد ظاهرة عادية محكومة بالتحولات الصدفوية والطارئة، التي تقع عرضا من حين لآخر، خارج أي مسوغ بنيوي يحتاج إلى برهنة ما، قد تكون ذات مرجعية جمالية فكرية، أو حتى ميتافيزيقية. غير أننا وفور تناولنا له كشكل مكتمل، وغير مقيد بعامل الظرفية الطارئة والصدفوية، فإنه سيتحول فورا إلى إشكال، نظري، نسعى إلى فهم دلالته بالصيغة التي يتمظهر عليها، كي نجد أنفسنا بصدد متاهات شكل تضمر في دواخلها احتمال وجود متاهات شكل آخر، معد بعناية فائقة لتفجير حالة قصوى من التنافر والتصادم الدلالي، وهي الحالة الملازمة للتجربة الإبداعية ككل، التي تنعدم فيها الحدود المعلومة، الفاصلة عادة بين الماء والنار.
وفي سياق الالتباس القائم بين طرفي ثنائية الشكل والمضمون، تجب الإشارة إلى أكثر من علاقة تحضرنا في هذا السياق، نذكر منها علاقة التواطؤ المبيت الذي يحدث أن يقع بينهما، في سياق تبادلهما للأدوار، أو علاقة التنافر الصريح، حيث يمضي كل منهما إلى وجهته المنزاحة عن وجهة الآخر، أو علاقة التفاعل المشترك من أجل بلورة رؤية، قد تكون تقليدية بحتة، أو حداثية صرفة.
فمن خلال وضعنا لهذا الإطار الموسع، والمتنوع الأبعاد والدلالات، سوف يكون بوسع ثنائية الشكل والمضمون، أن توسع مجال تفكيكها، كاشفة بذلك عما تمتلكه من مسارات مطبوعة باختلافها وتنوعها، مؤكدة بموازاة ذلك، على أن ما يعتمل فيها من تعقيدات، غير قابلة للاختزال في مقولات مسكوكة وأحادية البعد، وبالتالي فإن مقاربتها تبدو أكثر تعقيدا مما يعتقد البعض أنه مجرد بنية مزدوجة، قوامها قشرة خارجية، تحيط بنواة دلالية، هي الأصل في مقومات الإشكالية، وهي مبتدأ القول وخبره.
شاعر وكاتب من المغرب
معادلة صورة التعبير لمضمونه تتدثر فيها جملة من القضايا التي تحتاج إلى تفصيل، فهي ليست مطلقة إن لم نقل غير ممكنة، ولعل جزء منها يكمن في الوظيفة، ف للإيقاع وظائف منها ما هو جمالي وإقناعي تنتظم وفق ترتيب يحدده طبيعة الخطاب إذ يتقدم الإقناعي على الجمالي في الأشكال الخطابية غير الأدبية كالخطاب الديني مثلا والعكس صحيح في ما هو أدبي دون أن يلغي الواحد الآخر بما لا يعكس التطابق الذي أشارت إليه المعادلة السابقة لما يكون الشكل القائم على وظيفتين غير مكافئ لمضمون أحادي وهي إشارة الجاحظ في قوله: ” المعاني مطروحة في الطريق ….وإنما الشأن في إقامة الوزن….” (البيان والتبيين)، فالقدماء أحسوا بإيديولجية المعادلة وأما المحدثون فقد تأثروا بعلم النفس والمنهج النفسي في دراسة الأدب وكان أساس توظيفها بحث مشروعية الانتقال إلى الشعر الحديث.
شكرا على هذا المقال الرائع