يعد الروائي عبد الجليل الوزاني التهامي، من الكتاب المغاربة المخلصين لجنس إبداعي واحد، هو جنس الرواية، فهو لم يُشْرِك به، في الاشتغال، جنساً أدبيا آخرَ، على الرغم من محاولة القصة القصيرة، في بداية مشواره الإبداعي. وتأتي روايته «متاهات الشاطئ الأزرق» ــ وهي روايته السابعة، بعد ست روايات، اثنتين منها حاصلتين على جائزتين هما: رواية «الضفاف المتجدة؛ تيكساس»، الحاصلة على جائزة الحسن الثاني للبيئة سنة 2004. ورواية: «امرأة في الظل أو ما لم نعرف عن زينب» المتوجة بجائزة كتارا للرواية العربية، في دورتها الأولى، سنة 2015 ــ لتؤكد على كونها رهانا مغايراً لأعماله السابقة، وهذا ما يؤشر على قدرة هذا الكاتب على تجديد دماء الكتابة لديه، وعلى اجتراح مسارات كتابية مختلفة ومفاجئة لقارئه.
أطروحة الرواية
لكل عمل روائي جاد أطروحة ينبني عليها؛ وأطروحة هذا العمل تنبني على هذه التساؤلات: كيف يتلقى الناس أعمال الكاتب؟ كيف يتعاملون معها؟ هل يتداولونها في ما بينهم بمنطق أنها تخييل أم أنها واقع صرف؟ كيف لا ينجو أي عمل تخييلي من إسقاطه على الكاتب؟ وكيف تتحول الكتابة إلى جريمة، عندما يكون تأثيرها سلبيا على القارئ المتلقي؟ وهل يمكن أن يجد فيها البعض ذريعة لمحاكمة صاحبها؟ وأخيرا، كيف يُتهم كاتب بجريمة قتل لمجرد أنه سبق أن تخيل جريمة قتل مماثلة الظروف والأدوات في إحدى رواياته السابقة؟ إن رواية «متاهات الشاطئ الأزرق» بهذه الأسئلة التي تحاول تقديمها والإجابة عنها بشكل فني وجمالي سردي، هي روايةُ مساءَلَةٍ لواقع الرقابة، المتمثلة في عموم القراء، وفي محاكم التفتيش العصرية الجديدة والقديمة في آن، ما يجعل الرواية بقدر ما هي رواية مستقبل رواية ماض قريب وبعيد أيضاً.
يغدو المكان أحياناً شخصية فاعلة رئيسَة، بحضوره الطاغي الشامل والمغرق في التفاصيل الدقيقة، وحيث يغدو الزمان تاريخاً جماعيا مشتركاً معروفا ومصرحا به.
أجواء الرواية
منذ مفتتح الرواية، تطالعنا الأجواء الكافكاوية، حيث نلفي البطل تائها لا يعرف أين يوجد. ولا من أوصله ولا كيف وصل إلى المكان الحالي. ومع توالي الأحداث نكتشف مع الراوي أن البطل داخل مستشفى من نوع خاص، مستشفى لعلاج الحالات المستعصية للكتاب، فاللجنة الطبية لهذا المكان المغلق، مهمتها الكشفُ عن أمراضِ الكتاب، التي تظهر، في إصداراتهم وكتبهم. ليتحول واقع الشخصية في ما بعد، من مريض يُعالج، إلى متهم باقتراف ما كتبه بقلمه، ثم ينتهي الأمر إلى اتهام صريح للبطل بقتل الدكتورة المعالِجَة زكية، التي هي في الوقت نفسه زميلتُه السابقة في الدراسة في الثانوي. وعلى مدار هذه الأحداث تَنْبَعث شخصيات من ماضي الكاتب/البطل، لتجد لها مكاناً فاعلاً في حاضره، ومنها الشخصية المشار إليها سابقا «الدكتورة زكية» وشخصية الممرضة «كوثر عزوز»، وشخصية زوجته «خديجة». لتنتهي الرواية بعودته إلى المكان المجهول نفسه.
إن رواية «متاهات الشاطئ الأزرق» بتشكل متخيلها انطلاقاً من هذا الموضوع، وابتعادها عن القضايا الاجتماعية والتاريخية ـ التي تعودنا عليها في الأعمال السابقة للوزاني، وفي أعمال غيره ـ تكون قد خطت لنفسها مساراً غرائبياً وبوليسياً إلى حد ما، بعيداً عن التنميط الاجتماعي أو التاريخي، وهذا في حد ذاته إبدال جديد للوزاني على مستوى الموضوع.
الفضاء الروائي
على مدار رواياته السابقة، ظل مُكَونَا المكان والزمان يشكلان عنصراً بنائيا أساسيا، يرتفعان به من مجرد فضاء تجري فيه الأحداث إلى محرك مهم لها، بل إن المكان يغدو أحياناً شخصية فاعلة رئيسَة، بحضوره الطاغي الشامل والمغرق في التفاصيل الدقيقة، وحيث يغدو الزمان تاريخاً جماعيا مشتركاً معروفا ومصرحا به، غير أن الإبدالَ الذي نقف عليه في روايته الجديدة «متاهات الشاطئ الأزرق»، هو مساهمة الزمكان في بناء الأحداث، لكن ليس بحضوره، وإنما بغيابه، حيث تتلاشى محددات المكان والزمان في الرواية، ويغلفهما الضباب، ويصبحان هلامييْن، يستعصيان على القبض، بالنسبة للقراء، وبالنسبة للشخصية الرئيسة، خاصة مع تضارب تسميات المكان داخل الرواية، فهو حسب ملفوظها على لسان الراوي: «قد يكون مستشفى أو ثكنة أو سجنا»، غير أن القارئ سيتعرف على لسان سيدة ما، على تسمية أخرى للمكان، وهي «مكتب إثبات الهوية الشخصية من الناحية القانونية، التابع للهيئة. )أي هيئة؟ لا تصرح الرواية بذلك).
ثم يكتشف القارئ هوية أخرى للمكان، وهي «مستشفى للأمراض العقلية والنفسية». وأخيرا سيعلن على لسان إحدى الشخصيات أن المكان «مستشفى خاص بعلاج الكُتاب والشعراء والفنانين دون سواهُم». إن غياب سمات واضحة للمكان، في سياق أحداث الرواية، ساهم بشكل أساسي في بنائها وتشكيلها. تماما كما ساهم غياب تحديد عام للزمان، في تبديد الهوية الزمنية للأحداث وفي إطلاقها على كل زمان. إذن هو تأثير وبناء بالغياب؛ غياب التفاصيل الوافية عن الزمان والمكان وعدم وضوحهما.
تمكن الوزاني من تشغيل ما سماه باختين بالحوارية، المتجلية في السرد المتعدد الأصوات، المكسر للصوت الواحد الأحادي، في مقابل الرواية المونولوجية التي تعتمد المناجاة الذاتية.
متاهة البحث عن الهوية
يعود الوزاني، في روايته هاته، إلى الاشتغال على الشخصية الرئيسة، التي حضرت في كثير من أعماله، وأقصد شخصية «الكاتب»، حتى أننا يمكن وَسمُها بالشخصية الأدبية الأثيرة لديه، فهي قد حضرت في جميع أعماله تقريباً، وكان حضورها طاغياً، في عمله الأسبق «ليالي الظمأ»، غير أن حضورها فيه، كان معبراً عن تجربة مخصوصة، لم يُسقطها الروائي على كُتاب آخرين، أي أنها تجربةٌ خاصة متفردةٌ، من خلال أحداث ووقائع خاصة، بينما نجد حضورها، في هذه الرواية، معبراً عن المطلق المعمم، عن الصوت الجمعي، حيث مثل الكاتب البطل ذاته كما مثل جَماعة الكتاب، جاء في الرواية: «أنتم معشر الأدباء محيرون، في الوقت الذي كان من المفروض أن تكونوا قدوة للآخرين تنيرون طرقهم، وتخرجونهم من أتون الظلمات، وبلسما تساعدونهم على تخفيف آلامهم، نجدكم متخبطين في العتمات، وتسقطون صرعى بعِلَل يعجز الطب ـ أحيانا- على تشخيصها وبالأحرى إشفائها».
ولكن رغم هذا التعبير الإسقاطي على جميع الكتاب، إلا أننا نجد أنفسنا في هذه الرواية، أمام ملامح شخصية أدبية غير نمطية، فإذا كنا، غالباً، ما نلفي في الروايات العربية شخصية الكاتب البوهيمي المنصرف عن شؤون الحياة عن قناعة، أو شخصية المفكر والآخذ بزمام الأمور، فإننا في «متاهات الشاطئ الأزرق» أمام شخصية ذاتٍ كاتبةٍ، مغلوبةٍ على أمرها، تشعر بالضياع، ولا تملك زمام شؤونها، وغير قادرة على تحديد طريقها، فالأحرى إضاءة طرق الآخرين.
إن البطل في رواية «متاهات الشاطئ الأزرق» يعاني من الدوخة الشديدة، ومن فقدان الإحساس بكينونته، وعدم قدرته على تحديد هويته، غير أنه يقوم بتشكيلها واستعادتها من خلال تدخلات وتصريحات الشخصيات الأخرى، وهي تصريحات متناقضة، فبينما دكاترة الهيئة يعتبرونه الكاتب الشهير أنوار الراوي صاحب الأعمال الروائية، ومنها رواية «الشاطئ الأزرق» التي اتخذت دليل إدانة له، نجد الممرضة «كوثر عزوز» تعلنُ أمام الهيئة هويةً أخرى له، هي، حسب ملفوظ الرواية، وعلى لسانها :»الأستاذ أنوار الراوي، أستاذ اللغة العربية بالثانوية التي كنت أدرس بها قبل سنوات خلت»، نافية أن يكون المتهم «الأستاذ» هو «الروائي» الذي يناقشون أعماله من أجل معرفة أسباب أسقامه أولاً، ثم محاكمته بتهمة القتل ثانياً. لينتهي الأمر بقدوم زوجته «خديجة» إلى المستشفى لزيارته، فيسترجع عبرها، لجزء من ذاكرته؛ إنه الشخص الذي يُتحدث عنه، كل واحد من الجانب الذي يريد، حيث أكدت الزوجة للجميع بأنه هو «الأستاذ والكاتب الروائي في الوقت نفسه». وعلى مدار الرواية يظل القارئ في حيرة من أمره باحثاً هو أيضاً، عن الهوية الحقيقية للبطل، وهل هو قاتل «الدكتورة زكية»؟ وقد استطاع الروائي في هذا السياق من أسرِ المتلقي وجعله رهين البحث عن هوية مقدمة بشكل جزئي متقطع، لا تكتمل إلا مع نهاية الرواية.
رواية الحوارية السردية
تمكن الوزاني من تشغيل ما سماه باختين بالحوارية، المتجلية في السرد المتعدد الأصوات، المكسر للصوت الواحد الأحادي، في مقابل الرواية المونولوجية التي تعتمد المناجاة الذاتية، والتي وظفها في روايته السابقة «امرأة في الظل». ولعل المناخ الروائي، في هذا العمل، فرضَ هذا الاختيار، فالرواية رواية مُحاكمة، (محاكمة الكاتب على كتاباته أولاً، ثم محاكمته بتهمة القتل المتعمد للدكتورة زكية). وهو ما يقتضي القولَ والتصريح والرد والاعتراف والشهادة.. وغير ذلك مما يؤشر على تقديم وجهات النظر المختلفة، وقد تمكن الكاتب من إنطاق كل شخصية في الرواية وفق محددات تكوينها، بدءا من شخصية البطل الكاتب مرورا بجميع شخصيات الرواية.
ألاعيب السرد
وظّف الوزاني في روايته ما يمكن اعتباره مجموعة من الألاعيب الروائية، ومنها مثالاً .. القصة داخل الرواية، فداخل متن رواية «متاهات الشاطئ الأزرق» نَلْفي قصة الفنان التشكيلي. وقد جاء سرد هذا القصة بشكل متواصل، في نَفَسٍ واحدٍ، من الصفحة 59 إلى الصفحة 77، أي على مدار 18 صفحة من الرواية، وهو ما يجعلنا نسمِ هذا الأمر بالقصة داخل الرواية، إذ أن الأولى (أي القصة) يمكن قراءتها، من خارج الرواية، باعتبارها قصة مكتملة البناء السردي، بدون أن ينفي إمكانية قراءتها داخل المتن الروائي باعتبارها معضدة لدلالاته السردية، ومساهمة في بناء متخيله، خاصة أن القصة متعلقة بنزيل مع البطل في المكان نفسه، وهي تكشف جانباً من الزيف الفني واستغلال الأثرياء للفنانين الفقراء وانتحال أعمالهم ونِسْبَتِها إلى أنفسهم بدون أي خجل أو وازع فني أو أخلاقي. ثم الرواية ونقدها في كتاب واحد، فنجد نقدا لرواية موسومة بـ«الشاطئ الأزرق»، ما يدل على حيلة أو لعب روائي، يقدم الرواية ونقدها في كتاب واحد؛ روايةً تَقْرَأ نفسها، ويتشكل جزءٌ منها من هذا النقد، جاء في الرواية: «الشاطئ الأزرق هو أول عمل سردي نشره الأستاذ، وبكل موضوعية، وبعيدا عن أي تأويل موجه أو متحامل؛ فإنني حاولت أن أمارس دوري كناقد متخصص لتقريب وجهة نظر النقد الأدبي من شخصية الكاتب لغاية أنتم أدرى بها، ويبقى ما سأقوله هنا قابلا لأخذه كمادة معتمدة في التقرير التركيبي الذي سيصدر عن الهيئة.. وبدون مقدمات طويلة أقول: إن بوادر معاناة الأستاذ وأزمته النفسية تتسرب وبجلاء بين سطور رواية «الشاطئ الأزرق» لأن الكاتب اتكأ اتكاء كلياً على الواقع، أو بعبارة أخرى نَقَلَ أحداث روايته من محيطه الاجتماعي مدفوعا برغبته في انتقاد ما يراه من اختلالات في هذا المجتمع».
٭ كاتب مغربي