مجزرة سريلانكا وأسئلة الإرهاب غير الكلاسيكية

حجم الخط
3

ما الذي يدفع اثنين من أبناء محمد يوسف إبراهيم، أحد مليارديرات سريلانكا وتاجر البهار والتوابل الأبرز في البلد، إلى حمل عبوة ناسفة وتفجيرها في كنيسة اجتمع رعاياها للاحتفال بعيد الفصح؟ وأية سلسلة معقدة من الحوافز، إذْ لا يعقل أنها أحادية الطابع، دينية متطرفة أو تستمدّ عناصرها من مظلومية إثنية وتاريخية، شاءت لهذَين المنعمَين برغد العيش وأرفع الدراسة وأهنأ البال وأدفأ الحياة العائلية، أن يختارا صيغة انتحار «جهادي» أو «استشهادي» تودي بحياة عشرات الأرواح البريئة؟ وهل تكفي الخلاصة المعتادة، الصائبة مع ذلك، التي تشير إلى أنّ الإرهابي أعمى، وأنّ الانتحاري لا يُبصر إلا ما يُزيّن له من مثوبات وغنائم في الحياة الآخرة التي تعقب إزهاق روحه بيديه؟
هي أسئلة كلاسيكية أثارتها «مجزرة الفصح» الأخيرة في كنائس وفنادق على امتداد الجزيرة، وستظلّ تثيرها مجازر الإرهاب المماثلة هنا وهناك في العالم؛ حيث يبقى البحث عن إجابات ملموسة مسقوفاً بالاعتبارات الكلاسيكية ذاتها، التي يحدث مراراً أنها تحجب فرصة الذهاب أبعد نحو الجذور، واستقصاء الظاهرة من زاوية التعليلات الخارجة عن التقليدي والمستعاد والمتكرر. على سبيل المثال الأوّل، لماذا ضرب الإرهاب الكنائس المسيحية وليس المعابد البوذية، رغم أنّ تاريخ المظالم بحقّ المسلمين يشير بالاتهام إلى أتباع الديانة الثانية، وليس الأولى؟ سؤال آخر يمكن أن يتوقف عند التوقيت، وما الذي يمكن أن تخدمه هذه الرسالة الوحشية الدامية، في هذه المرحلة من حياة سريلانكا، أو ربما في هذا الطور من واقع الإسلام والمسلمين في شرق وجنوبي شرق آسيا إجمالاً؟ وأخيراً، هل ثمة بالفعل مقدار من حسّ الضحية لدى إنصاف وإلهام، نجلَيْ ملياردير البهار والتوابل، على وجه التحديد؛ يكفي لاقتيادهما إلى هذه الدرجة القصوى من إراقة الدماء؟
للمرء أن يبدأ من حقيقة تاريخية، أو بالأحرى اجتماعية ــ تاريخية، مفادها أنّ عمر الجالية المسلمة في سريلانكا يعود إلى 1000 عام على الأقلّ؛ أياً كانت تصنيفات هذا الإسلام: أصول تعود إلى التجار العرب، أو تنويعات على إسلام شبه القارّة الهندية، أو مجرّد ديانة منفصلة إثنياً عن الغالبية السنهالية ومختلطة من جانب آخر مع أقلية التاميل. التفصيل الأهمّ في هذا أنّ العلاقات بين البوذية والإسلام، وبين السنهالية والإسلام التاميلي استطراداً، ظلت قائمة على وئام وسلام حتى أواخر القرن التاسع عشر، مع دخول عاملَين حاسمين على الواقع السريلانكي: الاستعمار البريطاني، ثمّ صعود النظام الإقطاعي على خلفية ما أقامته السلطات الاستعمارية من شبكات ولاء وامتيازات. في أيار (مايو) سنة 1915 سوف تقع أولى أعمال العنف الإثنية بين البوذيين السنهاليين والمسلمين، ولسوف تتكرر في سبعينيات القرن المنصرم، وكان انتهاء الحرب الأهلية (1983 ــ 2009) بانتصار الجيش السريلانكي واستسلام «نمور التاميل» فرصة سانحة لنهوض تيارات بوذية متطرفة وضعت استهداف المسلمين ضمن سلّة مطالب قومية ومذهبية وهوياتية.

ما الذي يمكن أن تخدمه هذه الرسالة الوحشية الدامية، في هذه المرحلة من حياة سريلانكا، أو ربما في هذا الطور من واقع الإسلام والمسلمين في شرق وجنوبي شرق آسيا إجمالاً؟

غير أنّ تاريخ سريلانكا الحديثة الذي يبدأ من منتصف القرن التاسع عشر هو أيضاً، كما يشير م. أ. نعمان أستاذ دراسات التاميل في جامعة بيرادينيا، تاريخ تطوّر الوعي الإثني وصراعات الأقليات: بين السنهال، والتاميل، والمسلمين. ولعب الدين، إلى جانب اللغة، أدواراً رئيسية في التشكيلات الإثنية خلال مراحل الاستعمار وما بعد الاستعمار؛ حيث كان لكلّ من الناطقين باللغة السنهالية أو التاميلية أقليات فرعية في صفوف البروتستانت والكاثوليك والبوذيين والمسلمين، وتشكلت على أساس ذلك مجموعة لغوية سنهالية تضمّ البوذيين والمسحيين معاً، ومجموعة لغوية تاميلية تضمّ الهندوس والمسيحيين. هذا فضلاً عن لجوء النًخب السياسية والاقتصادية، الإقطاعية على وجه الخصوص، إلى توظيف العوامل الدينية واللغوية في استقطاب الجماعات الإثنية وممارسة مختلف أنساق الهيمنة والاستغلال. هذه الفسيفساء الغنية، والمتزاحمة المتنافسة في آن معاً، خضعت لاعتبارات شتى في عقود ما بعد الاستقلال، وأسفرت عن انحيازات أعلى توتراً واحتقاناً بعد انتهاء الحرب الأهلية، وشيوع الفساد وحكم العائلات.
كذلك يصحّ وضع حال المسلمين في سريلانكا ضمن خريطة أوسع، تشمل مظالم أشدّ وطأة في الواقع، تبدأ من الروهينغا في ميانمار، ولا تنتهي عند مسلمي المالاوي في تايلاند. وهنا أيضاً يُثار تساؤل منطقي: ألم يكن حرّياً بحاضنة الإرهاب أن تترعرع في أوساط مسلمي هاتين الفئتين، بدل ما شهدناه من نماذج التشدد الجهادي والتطرّف العقائدي لدى زهران هاشم و«جماعة التوحيد الوطنية» في سريلانكا؟ الإجابة تصبح نافلة، في واقع الأمر، لأنّ خريطة هذا الطراز من الإرهاب الجهادي لا تبدأ من السؤال المنطقي، ولهذا فإنها لا توفّر إجابة منطقية من أيّ نوع؛ وفي هذا الإطار من البحث عن جذور الظاهرة، وخلفياتها السياسية والاجتماعية العابرة للمؤثر العقائدي والآصرة الإثنية. بهذا المعنى فإنّ استهداف الكنائس، والفنادق التي استقبلت «المحتفلين بعيدهم الكفري» حسب بيان «داعش» الذي أعلن تبنّي المذبحة، ليس له من معاني المظلومية أو ثأر الضحية إلا النزر القليل والصلة الواهية.
وهكذا يتوجب أن تعيدنا هذه الحال إلى ما يشبه «كتلة منطق» مبسطة تحكم كلّ واقعة إرهابية، ربما مع استثناءات جدّ محدودة وقليلة ونادرة: 1) أنّ الضربة الإرهابية لا تميّز، قبل التنفيذ وخلاله وبعده، بين «بريء» و«مذنب»، أياً كانت الدلالة التي يقرنها التنظيم الإرهابي بهاتين المفردتين؛ ولكنها 2) لا توحّد بالضرورة، ولا تقيم موازنات انسجام أو حتى تنافر، بين هذا أو ذاك من الأيدي المنفذة، ممّن يلتقون حول الوسيلة والغاية من دون تباين أو تلاقٍ في عناصر الاجتماع والثقافة والتجنيد العقائدي. لهذا فإنّ السؤال الكلاسيكي، حول دافع نجلَيْ ملياردير التوابل والبهار في الانتحار وإزهاق الأرواح، يصبح غير ذي معنى في مستوى تشخيص الجريمة؛ لكنه يحمل الكثير من المعنى، والإلحاح والضرورة، في مستوى الذهاب نحو الجذور. قبل مظالم مسلمي آسيا، وقبل تسيّد أسامة بن لادن و«القاعدة» و«داعش»، ضرب الإرهاب في عشرات الأماكن، واختلطت ــ في قراءة نوازعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية… ــ تفاصيل التربية العائلية والحياة اليومية والسلوك العام والأمزجة النفسية والنزوعات الفكرية والثقافية، وما إليها.
وبالطبع، في وسع المرء أن يعدّ، فلا يستنفد مهما أحصى، سلسلة الجرائم التي ارتكبتها «داعش» في العراق، أوّلاً، ثمّ في سوريا بعدئذ؛ وأن يسرد مجلدات في جرائم هذه المنظمة الإرهابية، وفظائعها ومباذلها؛ وأن يختار من سجلّها الحافل أية واقعة شنيعة، مهما خفّت بشاعتها، لكي يستخلص أنّ «داعش» ليست من الإسلام في شيء، وأنها ـ على نقيض تامّ ممّا تعلن ـ ظهيرة الطغاة وأنظمة الاستبداد والفساد. ليس هذا هو المطلوب الملحّ، مع ذلك، على أهمية ممارسته دائماً، ودون كلل أو ملل. ما يُطلب على نحو أهمّ، وأشدّ إلحاحاً، هو التيقّظ على العوامل المختلفة، السياسية والاجتماعية والثقافية، التي أتاحت صعود «داعش»، وتتيح وضعها في القلب من معظم سيناريوهات التخريب والتفكيك والتقسيم، فضلاً عن التجهيل والاستغلال والتحريف، التي يتعرّض لها الاجتماع الوطني في كلّ من العراق وسوريا على حدّ سواء.
وليس أسهل من إدانة الإرهاب الأعمى، والتضامن مع الضحايا، وتأثيم «داعش» وسواها بأشنع الألفاظ. الأجدى، في المقابل، والأصعب بالطبع، هو محاولة اختراق دماغ إنصاف وإلهام محمد يوسف إبراهيم، السريلانكيَين اللذين انتبذا عن المليارات مسافة دامية قصوى، وذهبا إلى سفك الدماء البريئة دون أن يرفّ لهما جفن. هنا مكمن الأسئلة غير الكلاسيكية، التي تضرب عميقاً في الجذور، ولا تكتفي بخدش السطوح وحدها.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ahmed:

    ربما كانا يحملان حقاقب لا يعرفان محتوياتها ثم إرسالهما بها من طرف المخبرات المسونية فتم تفجيرهما عن بعد

  2. يقول محمد السوري:

    التفسير المنطقي والوحيد هو ان كل العمليات الإنتحارية هي رد فعل على كل الجرائم اللتي بتعرض لها المسلمين في كل أنحاء العالم ولكي ( تتوقف) هذه العمليات يجب إيقاف الحرب الصليبية والبوذية والصهيونية اللتي تشن على المسلمين

  3. يقول مازن كم الماز:

    أسئلة مهمة لا شك.. من أين جاء بشر كهتلر او ستالين او جنكيز خان او الحجاج او نيرون او من قتل ملايين البشر في معسكرات الغاز او شوارع مدن تركيا أثناء الحرب العالمية الأولى او في رواندا او نيوزيلندا او سري لانكا

إشترك في قائمتنا البريدية