مجلس التعاون يصارع الموت بعد الضربة القاضية السعودية

حجم الخط
1

مسايرتها فيه) بسحب سفراء الدول الثلاث من قطر له مدلولات كثيرة، ولكن أهمها انه رسالة سعودية واضحة بان جبهة قوى الثورة المضادة بزعامة السعودية ما تزال مصممة على منع اي تغيير في المنطقة العربية.
الرسالة تقول ان الرياض مستعدة لدفع المليارات لمنع التغيير، وانها لن توفر اي سلاح لتحقيق ذلك، ابتداء بالارهاب (الذي هو في جوهره عدو التغيير) مرورا بالطائفية الدينية (لضمان تمزق المجتمعات العربية وفق خطوط الانتماء الديني (مسلم/مسيحي، سني/ شيعي، وهابي/سني)، وصولا للخروج على التحالفات الاقليمية والدولية. ومع ان احدا لم يتوقع ان تبلغ الامور مستوى سحب السفراء كما حدث، الا ان تلك الخطوة بعثت رسالة أخرى تتضمن معنى خطيرا لتوضيح مدى استعداد السعودية لمواجهة المد التغييري. فهي مستعدة للتضحية بمجلس التعاون الخليجي في سبيل ما تراه حفاظا على الوجود. ومنطقها في ذلك: ما جدوى المجلس، وان كان خاضعا للهيمنة السعودية، اذا فشل في وقف رياح التغيير التي تهدد نظام الحكم السعودي؟ الامر الذي اثار التساؤل: ألم يكف إسقاط الثورات العربية او إفشالها او احتواؤها لاقناع اصحاب القرار في الرياض بانتهاء ربيع التغيير؟
هل ان تلك الخطوة اعتراف بان الثورة التغييرية ما تزال مصدر خطر على الرياض؟ فمنذ عامين بدأ الشعور العام يتجه لليأس من وصول الاسلام السياسي للحكم، بعد ان لاحت معالم التصدي للمشروع التغييري الذي اتخذ شكل الثورة والهيجان الشعبي ضد الاستبداد والظلم. وحين استطاعت قوى الثورة المضادة اجهاض اكبر الثورات في مصر، لم يعد هناك مجال كبير للتفاؤل الواسع بامكان تحويل الشرق الاوسط الى منطقة محكومة بالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الانسان. كان المتوقع ان تسعى السعودية لبسط اجواء في المنطقة تقنع الشعوب بعدم ضرورة التحرك من اجل التغيير السياسي لان الاوضاع السياسية والاجتماعية في الدول العربية اصبحت تتحسن.
كان حريا بالسعودية ان تعبر عن ارتياحها لما تحقق من استعادة السيطرة على الاوضاع السياسية ووقف عجلة التغيير، ان تبادر لاطلاق سراح اكثر من عشرة آلاف سجين سياسي يرزحون في سجونها، وان توسع دائرة الحريات لتخفف حالة الاحتقان الناجم عن القمع والاستبداد، وتأجيل اية نزعة للثورة من اجل التغيير.
لكن الخطوة السعودية بسحب السفراء من قطر كشفت ان الامر ليس كذلك، وان الحكم السعودي ما يزال يتوجس خيفة من حراك شعبي مستقبلي يصل الى الرياض او ينطلق منها. بل انها نقلت الازمة الى داخل اروقة المجلس الذي ما فتئت تفتخر به كانجاز كبير في منطقة لم تعرف سوى الفرقة والتشرذم. وربما عمق القناعة السعودية بضرورة القيام بخطوات استباقية لمنع عودة الجماهير للساحات ما حدث في بلدان ثلاثة تصدت السعودية لها بقوة. اول هذه البلدان مصر، وهي الدولة العربية الكبرى وحاضنة اكبر ثورة عربية في التاريخ الحديث. فقد راهن الحكم السعودي على افشال ثورتها منذ اليوم الاول لانطلاقها وضغطت على الرئيس الامريكي، باراك اوباما، لمنع سقوط حسني مبارك.
ولما فشلت خطواتها الاستباقية تلك، وانتخب رئيس اخواني، ادرك آل سعود فشل الحلقة الاولى من مشروع الثورة المضادة. فهرعوا للتخطيط ضد منجزات الثورة واهمها الحرية والحكم المدني وصناديق الاقتراع والتلاحم بين الاتجاهات الايديولوجية المتباينة. فلو استمرت تلك الظاهرة لتثبتت اركان النظام الذي أسسته الثورة. ولكن قوى الثورة المضادة بزعامة السعودية هرعت لمنع ذلك. فعمقت علاقاتها بالعسكر المصري، وعمدت لخلخلة المجتمع المصري من داخله بتحريك فئاته ضد بعضها وفق خطوط التباين الديني او المذهبي، وتواصلت مع بعض الجهات السياسية والدينية بشكل مكثف، ثم عمدت للتحالف مع الازهر مستهلة ذلك بزيارة وزير الاوقاف والشؤون الاسلامية، الدكتور صالح آل الشيخ، للازهر بعد بضعة شهور من سقوط مبارك.
كان ذلك كله مقدمة لاكبر انقلاب عسكري في العالم العربي في التاريخ المعاصر، ليس له شبيه سوى ما حدث في الجزائر في 1992. كان امل قوى الثورة المضادة انهاء الوجود السياسي للاخوان واعادة الاوضاع الى ما كانت عليه قبل الانقلاب. ولكن الذي حدث في الشهور التسعة اللاحقة كان مغايرا تماما لما توقعه العسكر والسعوديون. فقد تواصلت المقاومة المدنية ضد حكم العسكر، وبدأت العناصر المتحررة التي كان لها دور في ثورة 25 يناير بمراجعة مواقفها التي دعمت الانقلاب العسكري ضد حكم الاخوان. فالاحتجاجات لم تتوقف، بينما فتحت السجون ابوابها لعشرات الآلاف من المواطنين. وقد اشتكت اعداد كبيرة من العناصر المحسوبة على التيارات الليبرالية المعتقلة من التعذيب على ايدي اجهزة الامن التي تديرها النخبة العسكرية بزعامة عبد الفتاح السيسي. وبلغت الازمة ذروتها باعلانه الترشح للرئاسة، بعد ان اعاد عناصر عهد مبارك الى الواجهة.
والنتيجة المتوقعة من هذه التطورات عودة التوتر السياسي والامني في مصر، وما ينطوي عليه ذلك من خطر انفجار ثورة اخرى ستكون أشد وقعا وأكثر اقتلاعا لدعامات النظام السابق. فاذا حدث ذلك فلن تكون السعودية عندها بمنأى عن التغيير. ولذلك تسعى بما لديها من نفوذ سياسي ومالي لقطع شرايين الدعم القطري للاخوان المسلمين. ويمكن القول ان السعودية غاضبة تماما من علاقات قطر بتيار الاخوان المسلمين. فقطر تعتبر ذلك قوة لدبلوماسيتها، توفر لها مجالا للتأثير على مسارات التغيير، بينما تراه السعودية مصدر قلق دائم ودليلا على تحالف قطر مع جهات تعتبرها السعودية عدوة لها.
وهكذا يتحول الدور القطري في مصر الى مصدر ازعاج للسعودية يهدد بفشل مشروعها للثورة المضادة.
والفشل الثاني للسياسة السعودية المؤسسة على التدخل المباشر في شؤون الدول الاخرى، ما حدث في البحرين. وتمر هذه الايام الذكرى الثالثة للتدخل العسكري السعودي في البحرين وما نجم عن ذلك من ازدياد الوضع البحراني تعقيدا. فبعد شهر كامل من الثورة التي انطلقت في تلك الجزيرة الخليجية في 14 شباط/فبراير 2011، استيقظ شعب البحرين في 14 آذار/مارس على اصوات المركبات العسكرية وناقلات الجنود والسيارات المصفحة السعودية بعد ان عبرت الجسر الواصل بين البلدين، لتبدأ مرحلة اخرى في البلاد مختلفة تماما عما الفه الشعب طوال الاربعين عاما الاخيرة، اي منذ الانسحاب البريطاني من المنطقة. كان الهدف المباشر القضاء على تلك الثورة التي كانت امتدادا لثورتي تونس ومصر. وفي غضون 48 ساعة من الاجتياح العسكري السعودي تم القضاء على الوجود الشعبي بدوار اللؤلؤة الذي كان منطلق الثورة ورمزها، وقتل العديد من المواطنين، وبدأت حملة اعتقالات غير مسبوقة شملت قادة الثورة والكادر الطبي والمعلمين والرياضيين والشعراء. كما فرضت على البلاد القوانين العرفية التي استمرت ثلاثة شهور. واقيمت خلالها المحاكم العسكرية التي اصدرت احكاما جائرة بحق المئات من المواطنين. كانت صدمة كبرى للجماهير، ولكنها لم تلغ المشروع الثوري. فسرعان ما استعادت الجماهير توازنها وعادت الى الشوارع لتواصل المشوار، برغم سقوط القتلى بالعشرات والجرحى بالمئات. كان الهدف السعودي الذي دعمته الامارات انهاء الحراك الثوري بشكل دائم. وفيما يتأهب البحرانيون لاستحضار تلك الذكرى بفعاليات كبيرة في الداخل والخارج، يتضح ان السعوديين لم يحققوا ما يريدون. وحتى الآن تقول الرياض ان هدف التدخل العسكري ليس المشاركة في مواجهة التظاهرات، فذلك متروك للقوات الحكومية، بل الحفاظ على المنشآت الحيوية والاستراتيجية في البلاد.
ولكن مقتل ضابط اماراتي الاسبوع الماضي بعد انفجار في تجمع للشرطة بمنطقة الديه، كشف ان التدخل لم ينحصر على الدفاع عن المنشآت الحيوية بل تضمن ايضا الحفاظ على الامن العام والتصدي للمتظاهرين. وبعد مقتل الضابط الاماراتي، صرح ضاحي خلفان، نائب رئيس شرطة دبي، بضرورة ارسال الف جندي اماراتي للتصدي للتظاهرات في البحرين، الامر الذي سيزيد الوضع تعقيدا ولن ينفع الاطراف المعنية. أيا كان الامر فالواضح ان التدخل السعودي لم يحقق هدفه الاساسي بالقضاء على الثورة ووقف الاحتجاجات، بل ان السعودية نفسها اصبحت مسرحا لتطورات سياسية وميدانية كبيرة، منها ما يحدث في مدن نجد والحجاز من احتجاجات مطالبة باطلاق سراح المعتقلين، وما يجري في المنطقة الشرقية من توتر واحتقان. وقد قتلت قوات الامن السعودية الشهر الماضي اثنين من مواطني منطقة العوامية باستهدافهما من قبل تلك القوات بالرصاص الحي.
الامر المؤكد ان السعودية اطلقت النار على نفسها، واعلنت استعدادها للتضحية بمجلس التعاون الخليجي الذي هو المشروع الاطول من بين مشاريع التحالف والتقارب العربية، من اجل ما تعتقده ‘حماية النفس’ من رياح التغيير. فاذا كانت في السابق منزعجة من قطر بسبب سياساتها تجاه حزب الله وحماس، فان السعودية تعتبر اصرار الدوحة على دعم جماعة الاخوان المسلمين، أخطر من اية سياسة اخرى.
فالاخوان يمثلون مشروعا سياسيا قائما على الدين، الامر الذي تعتبره السعودية إضعافا للشرعية الدينية التي استعملتها على مدى مئة عام لتتصدر زعامة العالم الاسلامي. كما ان موقف قطر من مجموعة الحوثيين اليمنية التي تخوض السعودية معهم حروبا بين الحين والآخر، من بين العوامل التي دفعت الرياض لاتخاذ قرار التصدي لقطر ولو ادى ذلك لتصدع مجلس التعاون.

‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول احمد الصحراء الغربية:

    مقال رائع وتحليل عميق جاء في الصميم.اللهم زلزل عروش المستبدين المتهافتين على ما ليس لهم بحق واخرج المومنين بينهم سالمين وارحم هذه الامة

إشترك في قائمتنا البريدية