مجموعة الشاعر السوري ياسر خنجر “لا ينتصف الطريق”: الشعر على صراط المزج الخطر بين النثر والتفعيلة

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

 

لا يحتار قارئ مجموعة “لا ينتصف الطريق” للشاعر السوري ياسر خنجر، رغم المجاز الغالب في صياغتها، حتماً، في نَسْبها إلى الأعمال الأدبية الرفيعة التي تدين وتقاوم، أولاً: الاحتلالَ الإسرائيلي للجولان السوري، وسَجنه لرافضي احتلاله ورافضي ضمّ أرضِهم السورية إلى كيانه، حيث الشوق إلى الشمس والحرية وإلى عناق دفء الحبيب الذي ينتظر هو الآخر في الطرف الآخر، من عتمة السجن. وثانياً: النظامَ السوري الذي يأخذُ مجازَه الواقعي في الدمار الذي تخلّفه طائراته، وفي تهجيره الناسَ عن بيوتهم هرباً من الموت الذي يصطادهم بالقنص والتفجير، ورميه لهم على أشواك دروب اللجوء، وبحاره التي تبتلع شبابهم ونساءهم، وأطفالهم، الذين يمثلهم الطفل السوري إيلان كردي، المرمي على شاشات العالم جثةً لفظتها الأمواج. كذلك إدانة اختطاف الديمقراطيين في الغوطة الشرقية لدمشق، إضافةً إلى المعتقلين في جحيمه الذي يتجسّد في أحد عشر ألفِ جثة موسومة بالتجويع والتعذيب والقتل الذي فاق أقسى مجازر التاريخ، في فضيحة صور “قيصر”، ولمعت كـ:”إحدى عشر نجمةٍ”، ساطعةً وكاشفة حقيقةَ نظام بشار الأسد، وحفزت المنظمات الإنسانية لملاحقة مرتكبي هذه المجازر كمجرمي حرب:

“أنظر إلى جسدي بعدما صار جثة،

أنظر إلى الحزام الذي ترك أنيابَه وشماً حول عنقي،

أنظر إلى العظام التي نتأتْ في صدري،

إلى لحميَ المتآكل،

جلديَ المشققِ،

كاحلي المقضوم،

أنظر فإذا بي أرى أحد عشر ألف جثة

قد تجمعت في جسدي.

أحد عشر ألف جثة تصرخ الآن”.

لمجموعته الشعرية التي لا يحتار القارئ في معانيها وقيم المقاومة فيها، بقدر حيرته في تجريبها الفني، بما يخص موسيقى القصيدة خاصة، يضع ياسر خنجر بنيةً بسيطةً تلملم القصائد الثماني والخمسين التي تضمها المجموعة، في خمسة فصولٍ تأخذ عناوينَها من جملِ قصائدِها، وكل فصل منها يضمّ باقةِ قصائد متقاربة في مواضيعها. ويفتتح الشاعر هذه الفصول بقصيدةٍ تعكس رؤيته عن بلاده، وأسلوبَه في صياغة قصائده التي يغلب فيها التجاوز والتعدّي بما يعني صرف اللفظ عن معناه الحرفي إلى معنى له علاقة مباشرة به، تحت عنوان “مجازٌ فقط”.

في فصلها الأول، “ومن زنزانة في السجن ينبثق الشمال”، تنبضُ المجموعة بروح الأمل الذي يحبسه اليأس، في سبع قصائد تعكس ما يحفره السجن في روح السجين، وتوق الشاعر للحرية، في سجنه الصغير المفتت للأجساد، “التي تلبس الأشجارَ في سرّها ـ علّ غصناً شامخاً ينجو من الفأس أو يهزم الخريف”. إنه السجن الذي يخيّم فيه الأرق، ويتفتح فيه القلقُ بوابة حرية وأمل، حيث “الحياة دوماً تنتصر”.

ويُداخل الشاعر واقعَ سجنه الصغير بما لا تغيب عنه عينُه، السجن الكبير، الذي يغيّب فيه النظامُ السوري المدنيين السوريين، والثوار الديمقراطيين الذين يهدي إليهم قصيدة اختطاف: (رزان زيتونة، سميرة خليل، وائل حمادة، وناظم حمادي)، الذين لم يُعرف حتى الآن من اختطفَهم: النظامُ السوري أم جيشُ الإسلام الذي كان يسيطرُ على دوما زمن الاختطاف في نهاية عام 2013، أم أية لعبةٍ جهنمية لمخابرات النظام؟

في الفصل الثاني لهذه المجموعة، “كما الرئة، وقد زفرتْ كلّ أنفاسها”، تتناوب خمس عشرة قصيدةً العرضَ الشعري الملوّن برؤية الشاعر للموت والحياة، وللوجود والعدم بعمق أكبر؛ ولا تخطئ القراءةُ تلمس المأساة السورية، قصفاً وتهجيراً واعتقالاً وقتلاً ومجازر من قبل النظام السوري، دون مباشرةٍ في ذكره، بحقّ شعب سوريا على اختلاف قومياته ودياناته ومذاهبه، خلال الثورة السورية، كما لا تغيبُ إداناتُ القصائد بصورة غير مباشرةٍ لأفعال القتل، وحرصُ الشاعر على التآخي والسلام:

“ليس دماً هذا الذي فوق أرصفة الطريق

ولكنْ، حبرُ قلبٍ فاض عن حدّه…

ليس نعشاً هذا الذي فوق كتفك، يا رفيق

ولكنْ، جسدُ صنوبرةٍ صبيّة

أتعبتْها الريح فاتكأتْ

وكانتْ يداكَ سريراً لأنفاسها

فارفق بهمستها الأخيرة،

واتبع خفقة القلب، لا نداء المقبرة”.

في فصولها الثلاثة المتتالية (لو أهديتَ الوردةَ لامرأةٍ أحببتَ، لا ينتصف الطريق، وجراح الغيمة)، يستمرّ ياسر خنجر في التوليد الشعري لرؤيته عن الحياة والموت، وصراعات البشر، بامتداد أكبر لفلسفته حول ذلك، وتبرزُ في هذا رؤيتُه عن التكامل بين البشر والطبيعة وبين بعضهم البعض، في حبهّم وصراعاتهم. ويُداخل الشاعرُ ضمنَ هذا التكامل في الفصل الثالث من المجموعة، قصيدةً تحت عنوان “يأس”، مهداةً إلى الكاتب والمفكر اللبناني سمير قصير، الذي حلل واقع الوجود السوري في لبنان، ونادى بتكامل أو تلازم المسارين الديمقراطيين السوري واللبناني، ودفَع حياتَه ثمناً لذلك، اغتيالاً من قبل الحلفاء الطائفيين والفاشيين للنظام السوري:

“كيف لم أنتبه أنّ في يديك حفنةَ ماءٍ

تكفي لتسدّ الرمق،

ثم تفلقُ كل جدران اليأس؟

قصيٌ هو اليأس عنكَ

وأنت عصيٌ على الموت فينا…

هنالك بيروتُ رغم الشظايا التي اختطفتكَ أجمل،

تلك التي شلحتْ عباءاتِ الوصاية

لتنهلَ من خطاك الطريق

وبيروت، بيروت قد وهبتك سريرَ الأبد”.

على الصعيد الفنّي، يتميّز أسلوب ياسر خنجر بتشابك الرؤية وتجسيدها، باستخدام المجاز اللغوي، مع موجودات الطبيعة وحركتها، وتعكسُ لغة الشاعر بمفرداتِ وجملِ قصائد المجموعة هذا التشابك الذي يطغى أيضاً على معظم عناوينها مثل: خريف، يباس، إحدى عشر نجمة، ذئب، حقل زيتون، فجر، ريح، الشجرة التي تصير، غيمة واحدة، ضباب، سنبلة، حبتان من كرز، وجهة النهر… كما تتميّزُ هذه اللغة برموزها الغنية البسيطة الواضحة التي يستخدمها الناس في العادة للتعبير عن أحداثهم ومخاوفهم وآلامهم وأحلامهم ورغباتهم وآمالهم، مثل العتم والليل والمقبرة والذئب واليباس والطّرُق، مقابل الشمس والصباح والحقول والظباء والغيم والمطر والنهر والخطى.

في مستوى الموسيقى الشعرية، يصيغ ياسر خنجر قصائدَ مجموعته باستخدام النثر في قصائد منها، والتفعيلة في أخرى، والمزج بين النثر والتفعيلة في قصائد تعاني من وضعها على هذا الصراط الخطر الذي يثير الخلاف في أمر إخفاقه أو نجاحه، ويُهمل الشاعرُ تماماً موضوع القافية المتشابهةِ الإيقاع في قصائد التفعيلة التي يتشوق قراءٌ إلى انسياب غنائيتها داخل شرايينهم، في قصائد ربما أغْرتْ بذلك.

وفي تجريب هذا المزج الذي ينتهجه، ويحاول فيه إيجاد أسلوبه الخاص به، يجنّب ياسر قصيدةَ المزج هذه التصنيفَ والانتماءَ إلى حساسيات قصيدة النثر الحديثة وما بعد الحديثة، حيث لا يمنعُ فرط الحرية القصيدةَ من استخدام الحكاية والسخرية وما شاء الشاعر في تكوين قصيدته، كما يجنّبها التصنيفَ والانتماءَ إلى قصيدة التفعيلة. وفي كلّ هذا لا يحتار قارئ مجموعة “لا ينتصف الطريق” حقيقةً في تمييزها كمجموعةٍ مميزة، عبَّر عنها شاعرها محقاً في مقابلة معه بقوله: “لا ينتصف الطريق، علينا أن نقطعه كاملاً، حتى أقاصي الحلم”.

ختاماً فإن ياسر خنجر شاعرٌ سوريّ من مجدل شمس في الجولان المحتلّ، منحتْه تجربة معاناته الطويلة لأكثر من سبع سنوات في سجون إسرائيل، مجازاً، مسحةَ ملامسة العتمة وتلمّس أمل بزوغ شمس الصباح في قصائد مشرقةٍ بروح الحرية. صدرت له ثلاثُ مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة: “طائر الحرية” عن دار الفارابي، بيروت 2003، و”سؤال على حافة القيامة” عن مركز فاتح المدرّس للفنون والثقافة، الجولان 2008، و”السحابة بظهرها المحني” عن دار راية للنشر والترجمة، حيفا 2014، و”سحابة صيف” قصائد مترجمة إلى الإنكليزية، عن مؤسسة المعمل للفن المعاصر، القدس 2017.

ياسر خنجر: “لا ينتصف الطريق

منشورات المتوسط، ميلانو 2019

87  صفحة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية