يرحل مجيد طوبيا (1938 – 2022) يوم الخميس الماضي وهو يطوي صفحات متألقة من مسيرة التّمثُلات الجمالية المدينية لأجناس الأدب العربي الحديث بين الرواية والقصّة. مدرس الرياضيات الذي فهم نفسه ورتّبها بعمق في مواجهة تعتيم الأقلام النقدية عليه لسنوات طويلة وحتى وفاته، ربّما لأنه من الشّخصيات الأدبية التي تبدع صامتةً فلا تجيد، بل لا وقت لديها لإبراز نجوميتها (وربّما كان هذا من هنّاته) على الرغم مما أبدعه من نتاجات كفؤة بين الرواية والقصة من «فوستوك يصل إلى القمر» (1967) إلى «الهؤلاء» (1973) ثم «تغريبة بني حتحوت» بأجزائها الأربعة (1987 – 1992 – 2005 ) التي صنفت من بين أفضل مئة رواية في القرن العشرين، إلى النصوص التي لم يتأخر فيها عن الالتحاق بمبدعي سيناريو النص السينمائي فكتب «أبناء الصمت» لمحمد راضي، «حكاية من بلدنا» لحلمي حليم، و»قفص الحريم» لحسين كمال. يُعدُّ طوبيا من مؤسّسي أنساق البنى الروائية العربية، الذين أنجزوا مقروئية حِجاجِيّة تستلهم التراث ببُعدٍ فانتازي، وتبتعد عن السرد الفضفاض الذي أتعب الرواية العربية لعقود، فضلا عن قدرته على تذويب الفكاهة الساخرة فيها، وانطلاقه منها إلى تفسير غايته المجتمعية من النص بما هو بيانات ملائمة دائما لإدانة النظام الاجتماعي محلياً وعربيا. بهذا المعنى نهض المنظور الروائي لطوبيا على نقطة ارتكاز نوعية هي التنوير، حيث فرض نفسه شريكاً ماتعاً وجيداً جداً في تربية وبناء الذائقة الجمالية/ الفنية لجيل بكامله منذ ستينيات القرن الماضي وبالتوازي مع جمال الغيطاني وأسامة أنور عكاشة وصنع الله إبراهيم وغيرهم، مبتعداً عن التأثير الخاص لمنظومة الرواية «المحفوظية» (نجيب محفوظ) التي حكمت جميعها مسيرة الأدب الروائي المصري لسنوات طويلة كما هو معروف.
استثمر طوبيا في جدلية التخييل والواقع للتعبير عن هموم وآلام المصريين لاسيما بعد نكسة عام 1967 في منحى تجديدي أنهى العقلية المثالية – كي لا نقول الساذجة – التي حكمت الشارع المصري/ العربي، وهي تتأول الرؤى الحقيقية للعلاقات الإنسانية بين الشعوب، وفتحَ على التفكر بعمق في خطاب تلك العلاقات ومرجعيتها المصلحية المتوحشة قبل كل شيء، مندفعا باتجاه إحياء المساءلة الفكرية لمعضلة تجريد الإنسان من هويته في ثنايا النص الروائي أو القصصي، وجعل الأخير عالماً موازياً، لا منافساً، لعالم الواقع. بهذا المستوى دفع طوبيا دائماً إلى تغريض القضايا المجتمعية وفاق رؤيته للذات من جهة، ومعاينته للعالم من جهة مقابلة، من أجل بلورة مقولات سردية بمقاربات تخترق الثقافة الأبوية التقليدية والمتراخية التي كانت سائدة قبل النكسة، ولم يكن ذلك ردّاً انفعالياً بقدر ما كان مشروعاً مدينيّاً لإعادة التوازن المفقود مع العالم المحيط بنا.
كانت مواقف طوبيا شديدة الاتصال بالمتلقي، بل حريصة كل الحرص على عدم خلخلة بنائه العقدي في الدين أو القومية، فأنجز خطاباً جريئاً وعفوياً حد الفطرة يصوغ التّمثُلات الخاصّة والعامة لتجارب شخصياته لاسيما في الحيز القصصي وهو يتناوب في السرد بين صوته الضمني كراوٍ عليم، وصوت الشخصية، إنما بفاعلية واحدة تضخ دلالات اجتماعية وعَوِية متعددة الأبعاد عبر تقنياته السردية المعتمدة.
في سياق هذه الاشارات السريعة فإن طوبيا انخرط في صلب الجدل الحداثوي منذ انطلاقه في منتصف القرن الماضي، بالمعنى الذي يرى إلى تعريف الدور التقدمي المجرد للكاتب، أياً كان تصنيفه الأجناسي عطفاً على احترام الأخير للاجراءات الخاصّة بمسألة ربط التنظير بالتحقيق لا الاكتفاء بعراضات التبجيل والمجاملات الممجوجة. تبقى أهمية مجيد طوبيا في تبنيه أدباً يُنمّي باطِّراد المحمولات النفسية لإشكالياتٍ إنسانية عديدة تمسُّ عالمنا العربي تحديداً وأهمها الفَقْد: فَقْدُ الأرض/ الوطن، فقد الكرامة/ الهوية، فقد الكينونة/ الوجود، في ترجمة واضحة لمحنة الإنسان العربي، الفرد، المنكسر، الذي لا حيلة له في مواجهة منظومة الأقوى والأعتى والأكثر ظلماً من حوله (رواية الهؤلاء) وللمفارقة أصبحت أحواله تلك مادةً تداولية لتقارير أُممية تتحدّث عن «الظُّلم في العالم العربي» مما استشرفه طوبيا وهو يقرع ناقوسَ خطره منذ ما قبل خمسين عاما.
كاتب لبناني