يبدو أن المخرج السينمائي اللبناني، أحمد غصين، استجاب لدعوة أطلقها بعض إعلام النظام السوري العام الفائت لاستثمار مواقع الدمار التي خلّفتْها حرب النظام على المدن، كـ»لوكيشين» تصوير، بدلاً من «بناء أستوديوهات وصرف تكاليف باهظة لخلق جو الحرب..»! فقد ذهب غصين إلى بلدة القصير السورية الحدودية مع لبنان التي خلّف فيها النظام الممانع دماراً رهيباً، بعد أن شرّد واعتقل وذبح أهلها، ليعود منها بفيلم روائي بعنوان «جدار الصوت»، أثار، حتى قبل أن يُعرَض، جدلاً صاخباً قاسياً يدين في معظمه أن يستخدم المخرج دمار المدينة المهجورة من معظم أهلها في تصوير فيلم يستعيد حرب تموز 2006 التي خاضها لبنان مع العدو الإسرائيلي.
إنه استخدام لا يقيم وزناً للضحايا الحقيقيين، يستعير ألمهم وما تبقى من آثار حياتهم وذكرياتهم، ليروي حكاية «ضحايا» آخرين، وما هؤلاء الآخرون (للمصادفة!) سوى القتلة الملوثة أيديهم بدماء أهل هذا المكان (نعم، لا بدّ من القول بأن بعض ضحايا حرب تموز هم قتلة وسفّاحون في بلدة القصير وسواها من المدن السورية).
المخرج أحمد غصين: الحديث هنا عن مدنيين سُحقوا ويُسحقون يومياً أمام ماكينة الدمار في بلداننا، وفي هذا الشرق. مرة في جنوب لبنان، مرة في سوريا، أو اليمن.
هل يستطيع المخرج تخيّل الأذى الذي يمكن أن يسببه للضحايا، لمن تبقى منهم على قيد الحياة، حين يتعرّفون، في فيلمه،على أجزاء من بيوتهم ويومياتهم؟ خصوصاً عندما يعرفون أن قاتلهم بالذات هو من سرقها، كي تساعده على التحول إلى ضحية، كي تعينه على البكاء؟!
المخرج في جوابه على النقاش حول فيلمه قال إنها «استعارة»، وإن «الحديث هنا عن مدنيين سُحقوا ويُسحقون يومياً أمام ماكينة الدمار في بلداننا، وفي هذا الشرق. مرة في جنوب لبنان، مرة في سوريا، أو اليمن»، وأضاف: «ليس من باب الصدفة مثلاً أننا لا نرى وجوه الجنود في الفيلم». هو يحاول إذن، باسم سينما إنسانية، أن يموّه القتلة كما الضحايا على حدّ سواء، مع أنهم في كلا الحربين (حرب تموز، وحرب القصير) معلومون للجميع. كيف يشعر، وهو صاحب تجربة في أفلام وثائقية، وهو يطمس وثائق دامغة، يزيفها، أو يسجّلها بأسماء أخرى!
يحاول المخرج، باسم سينما إنسانية، أن يموّه القتلة كما الضحايا على حدّ سواء، مع أنهم في كلا الحربين (حرب تموز، وحرب القصير) معلومون للجميع.
لا ندري إن كان المخرج مدركاً لما يضمره اختياره ذاك. لقد أراد العثور على مكان يثبت وحشية الإسرائيليين، فلم يجد. لم تسعفه سوى وحشية «رجال المقاومة» وما صنعتْه أياديهم في القصير. لا ندري أيضاً إن خطرت له مدينة القنيطرة السورية، تلك التي احتفظ بها النظام السوري مهدمة لخمسين عاماً عرضة للسياح والدبلوماسيين الأجانب دليلاً على وحشية الإسرائيليين، ولعل آثار تلك الوحشية ما زالت منتصبة إلى يومنا هذا.
لا أحد من أطراف النقاش شاهد فيلم «جدار الصوت» حتى اللحظة، لكن المشاهدة لن تغيّر في الأمر، فالمسألة في المبدأ، في فكرة «استعارة» ألم الضحايا السوريين من أجل تمجيد ألم قاتليهم.
نظام إعاقة
اكتسح التهليل بتعديل مناهج دراسية سعودية مواقع التواصل الاجتماعي أخيراً. مناهج استفاقت على ضرورة فضح العثمانيين، واستعمال تعبير «الدولة الغازية» بدلاً من «الخلافة العثمانية».
هذا التوظيف السياسي للمناهج ليس جديداً في بلداننا، فالتربية والتعليم وقوانين الفيزياء والموضة والطبخ كلها خاضعة لقرار الحاكم، إذا قرر بطلان كروية الأرض فلا تستبعد أن يخرج علماؤه قبل مشايخه إلى الشاشات والمنابر ليعلنوا خطأ العلم وقوانين الطبيعة.
المحزن هو الناس، الذين تجدهم مرة يركضون في هذا الصوب، ومرة أخرى في صوب معاكس، من دون أن يشعروا ببؤس الحال.
التوظيف السياسي للمناهج ليس جديداً في بلداننا، فالتربية والتعليم وقوانين الفيزياء والموضة والطبخ كلها خاضعة لقرار الحاكم. إذا قرر بطلان كروية الأرض فلا تستبعد أن يخرج علماؤه قبل مشايخه إلى الشاشات والمنابر ليعلنوا خطأ العلم وقوانين الطبيعة.
علينا أن نتوقع أن الأمر لن يتوقف عند المناهج، فالدراما التلفزيونية ودول الخليج متحكمة تماماً في رقبتها، إنتاجاً وعرضاً، لا بدّ أن تتحفنا في العام المقبل بوجبة ضخمة من الأعمال التي تركز على فظائع العثمانيين في بلادنا (أراهن أن كتاب سيناريو سيلتقطون هذا الخيط الآن، ويبادرون بتقديم أفكار في هذا السياق لشركات الإنتاج التلفزيوني)، تماماً كما فعل النظام السوري في «إخوة التراب»، المسلسل الشهير (من إخراج نجدت أنزور) وقد وضع أمام عيون العائلة العربية أفظع مشاهد للدم والمجازر والخوازيق، كل ذلك في مرحلة خلاف سياسي بين السوريين والأتراك، مشاهد نسيت كلها لاحقاً في فترة الصفو، وتحولت إلى مسلسلات تركية مدبلجة باللهجة الشامية.
صحيح أن المناهج الدراسية وكذلك المسلسلات ليس بإمكانها أن تكتب التاريخ، لكن من دون شك في إمكانها أن تصمم الحاضر، أن تشكل نظام إعاقة ذهنية للبشر، كيف يتصرفون ويتحركون ويتخذون مواقفهم. الأخطر، أن تجدهم في قلب ذلك النظام في منتهى السعادة والحماسة.
المصنع الأمريكي
ظهر أخيراً فيلم «المصنع الأمريكي» على شبكة «نتفليكس»، وهو باكورة إنتاج مشترك لهذه الأخيرة مع شركة «هاير غراوند» التي أسسها أوباما وزوجته العام الماضي.
يحكي الفيلم قصة استحواذ شركة صينية على مصنع مهجور لشركة «جنرال موتورز»، أغلق بسبب الأزمة المالية العالمية. يتحدث عن آلاف العمال الأمريكيين الذين جرى توظيفهم في مصنعهم القديم نفسه من قبل شركة صينية، بأقل من نصف أجرهم السابق، وبشروط سلامة مجحفة للغاية.
لا يمكنك أن تسوق وثائقي «المصنع الأمريكي» على أنه بروباغندا في سياق الحرب الأمريكية على الصين، إنه وثيقة عن الصين القادمة المرعبة، التي يرى فيها البعض منقذاً للفقراء، بعد أن ألبستْهم أحذية جيدة رخيصة، وكستْهم بما لم يكونوا يحلمون به!
هنا لن ترى مأساة العامل الأمريكي وحسب، بل يشكل الفيلم أيضاً إطلالة على أحوال العامل الصيني، ومن عجب أنك تراه متناغماً مع شروط عمل قاسية، بل تجده يسخر من مطالبات الأمريكيين بتحسين شروط عملهم، كما لو أنها نوع من الدلع. في «المصنع الأمريكي» يمكنك أن ترى الوجه المرعب للصين، فوراء مأساة العامل الأمريكي، التي يلاحقها الفيلم الوثائقي، سترى العمال الصينيين يعامَلون كالعسكر. مشاهد كنت رأيتها من قبل في سلسلة وثائقية بثتها «الجزيرة» عن «صحوة التنين الصيني»، وحسبت أن التعامل مع العمال الأفارقة كعسكر هو شأن فردي يتعلق بمزاج رب عمل صيني غريب الأطوار.
في قراءة أولى، لا يمكنك أن تسوق وثائقي «المصنع الأمريكي» على أنه بروباغندا في سياق الحرب الأمريكية على الصين، إنه وثيقة عن الصين القادمة المرعبة، التي يرى فيها البعض منقذاً للفقراء، بعد أن ألبستْهم أحذية جيدة رخيصة، وكستْهم بما لم يكونوا يحلمون به!
كاتب فلسطيني سوري
مقال موفق