جنين ـ «القدس العربي»: في قاعة نادي مخيم جنين الرياضي وضع مقاومون مخلفات (الخردة) الخاصة بالمصفحة الاحتلالية «الفهد» التي تم إعطابها عبر عبوة ناسفة محلية الصنع قدر وزنها 40 كيلو غراما يوم الاثنين الماضي الموافق 20 حزيران/يونيو وفي ذات القاعة التي تشهد بيوت عزاء كل شهداء المخيم.
وفيما ينخرط جمهور المخيم إلى جانب عائلات الشهداء التسعة في استقبال وفود المعزين والمهنئين من كل مناطق الضفة الغربية وعلى اختلاف الشرائح والفئات الاجتماعية والمهنية، يأخذ شبان صغار الصور إلى جانب المخلفات الحديدية الثقيلة التي لم يتمكن الجنود من إخراجها فيما تتزين صور الشهداء جدران النادي الرياضي.
وإلى جانب زيارة مكان تلقي العزاء بالشهداء يصر مواطنون كثر على زيارة المكان الذي وقع فيه تفجير المصفحة التي دخلت الخدمة في صفوف جيش الاحتلال عام 2021 لتحل محل العربات المصفحة من نوع «زئيف» أي الذئب.
وهناك يصر مواطنون على زيارة أطراف المخيم من أجل رؤية الحفرة التي خلفتها العبوة الناسفة والتي يبلغ عمقها مترا فيما قطرها يصل إلى مترين.
ويتحدث مع «القدس العربي» أحد النشطاء أن تفجير العبوة الناسفة أو ما بات يعرف عملية حقل العبوات أعادت الزخم للمقاومة كخيار يعمل ويتدرب ويطور إمكانياته.
ويضيف الناشط أن عملية وضع مخلفات المصفحة المتفجرة إلى جانب صور الشهداء لهو تقدير لهؤلاء الشهداء الذي سقطوا خلال اقتحامات الاحتلال الإسرائيلي والدليل على أنهم لم يذهبوا بلا قيمة أو هدف، ومؤشر على أن الطريق سيقود إلى نتيجة.
ويتداول مواطنون فيديوهات التفجير في الكمين المحكم الذي أعلنت عنه كتيبة جنين، حيث يظهر المركبة الاحتلالية التي كانت في مهمة اعتيادية لاعتقال مطلوبين كما صرح الاحتلال برفقة عشرات المركبات العسكرية، وتظهر الفيديوهات عملية التفجير من ثلاث جهات على الأقل فيما يعكس الفيديو الذي نشره جيش الاحتلال عملية التفجير من داخل المركبة عبر كاميرا مثبتة على رأس جندي.
وكل الفيديوهات وطريقة تداولها والنتيجة التي قدمتها تؤشر إلى اعتبارها حدثا رمزيا مهما في معركة المخيم ومقاوميه، وحسب أحد المقاومين فإن ما بعد العبوة الناسفة ليس كما قبلها.
وتجود عشرات الفيديوهات التي وثقها مواطنون ونشطاء بعملية سحب المصفحة من أطراف المخيم وخروجها من المدينة وهي عملية معقدة استغرقت ساعات لكنها تثبت مقدار الإذلال الذي عاشه الجيش الذي اعتاد على تقديم نفسه بإنه «الجيش الذي لا يقهر».
الاغتيال من السماء
يقر نشطاء ومقاومون بالخسارة التي تمثلت باغتيال قوات الاحتلال بعد يومين من تفجير المصفحة ثلاثة مقاومين عبر استخدام طائرة مسيرة وهي الأولى من نوعها في الضفة الغربية منذ 17 سنة، لكنهم يضعون العملية في سياقها الحقيقي والنضالي.
ويرون أن هذه العملية كانت بهدف الاستعراض وإظهار القوة أكثر من كونها نجاحا ميدانيا.
ونقلت إذاعة جيش الاحتلال عن ضابط رفيع في قيادة الجبهة الوسطى قوله: «هذه خطوة هدفها الردع وكي الوعي، للتأكيد أن قواتنا تعمل بحرية في المنطقة عبر قوات علنية وسرية، فقد كان الإرهابيون تحت المراقبة منذ لحظة مغادرتهم جنين».
وفي سياق مختلف تماما ذكرت صحيفة «هآرتس» أن عملية الاغتيال كانت استعراضية تهدف لإرضاء المستوطنين.
وجاءت العملية الجوية في ظل دعوات إسرائيلية لاستئناف الاغتيال، بعد الثمن الباهظ الذي دفعه الاحتلال في جنين أثناء اقتحامها لاعتقال «مطلوبين» حيث أفضت العملية عن اغتيال المقاومين الثلاثة، صهيب عدنان الغول، ومحمد بشار عويس من سرايا القدس – كتيبة جنين، وأشرف مراد السعدي من كتائب شهداء الأقصى.
ويتداول مواطنون من المخيم وكذلك المدينة تاريخ انضمام الشهداء الثلاثة إلى العمل المقاوم، إلى جانب قصصهم في الحياة ووضعهم المادي وطبيعة عملهم السابق.
وكل القصص التي تمكنت «القدس العربي» من جمعها تؤشر إلى أن مقاومة المخيم وكتيبة جنين مستمرة ولا يمكن لها أن تتوقف، فالشهيد عويس على سبيل المثال تاجر كبير، لكنه ترك التجارة والتحق بالعمل المقاوم، وكذلك الأمر بالنسبة للشهيد الغول الذي كان يدعم المقاتلين ويتكفل بتموينهم، أما حكاية الطفل المقاتل أشرف السعدي فهي مؤشر على أن الأطفال يرثون قصص أقاربهم المقاتلين.
المقاومة حافلة لن تتوقف
وفي ذات الأثناء وبينما يمارس سكان المخيم حياتهم كالمعتاد ينشط مقاومون ومتطوعون في عملية أطلقت عليها المقاومة «إغلاق المجال الجوي للمخيم» عبر استخدام أدوات بسيطة على شكل أغطية (شوادر) نصبت في الأزقة والحارات والنقاط الرئيسية في المخيم في فعل يراد له أن يحبط مخططات العدو عبر الاستهداف بالطائرات.
ويحدث «القدس العربي» أحد النشطاء عن إطلاق حملة لجمع تبرعات بالأغطية والشوادر وصولا إلى تغطية أغلب المناطق في المخيم وما يخدم المقاومين في هذا المسعى هو طبيعة الطرقات الضيقة في المخيم.
وأمام التطور الذي عكسه الفعل المقاوم الذي تحول من عبوات ناسفة محلية بسيطة و»أكواع» وإطلاق رصاص إلى عبوات ناسفة متقنة الصنع تتحول النظرة للمقاومين والحالة النضالية في مخيم جنين وهو الأمر الذي ينعكس بقوة على توسع الحاضنة الشعبية لها وطبيعة النظرة إليها.
وتنطلق كلمات الفخر والإعجاب من كل المواطنين الذين يمكن مصادفتهم في الشوارع أو محادثتهم هاتفيا، وكأن مفخرة المخيم التي وقعت أثناء معركة المخيم 2002 أضيف لها ضلع جديد تمثل في تفجير مصفحة الفهد التي أوقعت 8 إصابات في صفوف جيش الاحتلال.
وينخرط شبان صغار يطلقون على أنفسهم «مقاتلين في سبيل الحرية» في عمليات بحث عن دور مساعد فيما يقول نشطاء إن المقاومة بمثابة حافلة تسير والمؤكد انها لن تتوقف، بل هي تقوم بدهس كل من يعترض طريقها.
ويلمح آخرون إلى أن ما قدمته مواجهة المخيم الأخيرة والتحولات التي طرأت على مواقف الكثير من المواطنين، وتحولات المسؤولين الرسميين المشككين دوما والطريقة التي تنظر فيها المقاومة إلى نفسها، تشير إلى أنها أمام بدايات جديدة، في تقديم نموذج مقاوم لن نقول إنه يشبه ما يجري بقطاع غزة لكنه نموذج خاص بمقاومة الضفة الغربية.
ويقول ناشط: «لن تسمع بعد اليوم عبارات من نوع توقفوا، من يقول ذلك سيقول له سكان المخيم أنك خائن، المخيم يمر بتحول كبير، هذه حقيقة ويجب أن يدركها الجميع».
ويضيف: «نحن اليوم أمام ظهور كتائب مقاومة جديدة، أصبح لدينا كتائب أبو علي مصطفى، وهذا تحول ومؤشر».
وتحدثت «القدس العربي» مع الأسير المحرر والناشط السياسي والمجتمعي رمزي فياض عن مسألتين يعكسان المشهد في مخيم جنين، الأولى مرتبطة بالجينات، فهناك جين خاص بالمخيم يدفعه إلى رؤية ذاته من خلالها، والثانية مسألة مرتبطة بالجيل الجديد الذي يبحث عن دور إيجابي حيث وجد نفسه في تجربة مقاومة الاحتلال.
ويفصل فياض قائلا: «الجيل الشباب اليوم ليست لديه فرصة، ومع ذلك هو دائم البحث عن نفسه، وفي مكان ما وجد دورا إيجابيا حيث يمارس المقاومة ويدعمها، حكاية شباب المخيم والجيل الجديد غير المؤطر بدأت من هنا، حيث شعروا بالاهتمام والنجاح».
ويكمل حول سؤال واقع المخيم اليوم مشددا على أن «المخيم يمر بمجموعة من المحطات، وفي كل محطة يشعر بنوع من المسؤولية الوطنية، فيما تدفعه تطلعات الناس نحوه إلى هذا الدور أو المحطة، وبالتالي من الصعب أن يتراجع المخيم للوراء، إنه يرى تطلعات الناس نحوه ويحاول أن يلبيها».
يعود فياض للوراء قليلا في محاولة قراءة مشهد المخيم بعد تفجير المصفحة، حيث يقول: «لدينا مشهدان متناقضان، الأول كان مرتبطا بوجود نوع من الصراع الداخلي بين المقاومين والأجهزة الأمنية، وهو أمر كاد أن يغرق المقاومين في صراعات جانبية وداخلية وكان يمكن لهذه الصراعات أن تحمل بذار انتهاء الظاهرة المقاومة».
ويكمل: «المشهد الثاني يتمثل في أن المقاومين وعبر المواجهة الأخيرة كانوا يبحثون عن الخيط الأخير الذي يمكنهم من الاستمرار والمواصلة، وقد خاضوا مواجهة مشرفة رفعت الحالة المعنوية في صفوفهم وفي صفوف سكان المخيم وهو ما عمل على توسع الحاضنة الشعبية، حيث ظهروا بصفتهم مقاومين وقادرين على إيذاء العدو، وبالتالي شعر الناس بالجدوى فيما شعر المقاتلون بالنشوة والإنجاز والقدرة».
ويرى ابن المخيم فياض أن ما حدث في المخيم هو بمثابة أن أصبح شعلة ملهمة لجيل كامل بحيث يعمل ويمارس، ويشدد أن المعادلة اليوم أصبحت عبارة عن ثنائية، أحد أطرافها الاحتلال الإسرائيلي الذي أصبح يسعى أكثر من ذي قبل للقضاء على المقاومين، فيما المقاومون والمواطنون هم الطرف الثاني الذين أصبحوا أمام خيار المواجهة.
وإذ يقر فياض في أن المخيم وصل محطة مصيرية فإنه يركز على جانب مهم في التعاطي مع قضايا المخيم والجرائم التي ترتكب بحقه، وهو يطلب من الإعلام ليس التركيز على جانب البطولة فقط، وهي مسألة مهمة جدا، لكن يشدد على ضرورة عدم نسيان جانب الجريمة الإسرائيلية بحق المخيم.
ويضيف: «خلال عملية يوم الاثنين الماضي فإن كل الشهداء الذين سقطوا لم يكونوا مقاتلين، فيما كانت معظم الإصابات من الصدر فما فوق، حيث كان استهداف المدنيين مؤشرا على أنه يريد معاقبتهم على مجرد الحركة».
ويقول: «كل الشهداء ومن أصيب إصابات خطرة كانوا برصاصة واحدة من قناص كان يتعمد القتل، إنها عقوبة قاسية على مجرد فكرة أن تتحرك، إنه يريد معاقبة المواطنين الذين تفاعلوا مع المشهد الذي صنعه المخيم، فخرجوا للشارع، وما كان من الاحتلال إلا أن بدأ يتصيد المواطنين بالقتل».
وأمام التهديد الإسرائيلي للمخيم وبتوسيع العملية العسكرية يرى أن المخيم بأمس الحاجة إلى خط دفاع قوي إلى جانب المقاومين، وهو أمر يمكن أن يوفره المد الشعبي والجماهير.
ويضيف: «أيضا يعتبر نموذج الشهيدة طالبة المدرسة سديل نغنغية (14 عاما) بمثابة الخط الأول للدفاع عن المخيم وذلك في حال تمكنا من التعامل مع قضيتها بوعي في نقل قضية المخيم ورسالته».
ويرى فياض أن المخيم بحاجة إلى تقاسم أدوار، في ظل حجم التهديد الذي يتعرض له، فالمسألة تتطلب استنهاض كل الطاقات وبحاجة إلى أن نحسن من استخدام وسائل الإعلام.
ويطالب بإعادة استنهاض العامل الشعبي للدفاع عن المخيم، ومن المقاتلين بأن يتحركوا لمنح الناس/ الشعب الدور في الدفاع عن المخيم وسكانه المدنيين.
ويحذر بدوره من مسألة أن تقتصر مسألة الدفاع عن المخيم على المسلحين، معتبرا أن ذلك يعني حرمان السكان من دور مهم في ظل أن مشكلة الاحتلال ليست مع مجموعة من المسلحين فقط، إنما هي مع الشعب الفلسطيني الذي يقع تحت الاحتلال.
ويرى أن الأولوية اليوم يجب أن تترجم في أن يرتبط المخيم بعلاقات قوية مع محيطه سواء الأحياء الأخرى والبلدات والقرى والمجتمع المدني والعشائر..الخ، مشددا على أهمية أن يكون دور لهؤلاء في حماية المخيم ومشاركتهم في الدفاع عنه والنضال من أجله.
ولا يخفي فياض حقيقة أن المواطنين تعبوا من الأوضاع السائدة، لكنه يؤكد أنهم إذا ما لمسوا ذرة أمل فإنهم سينزلون إلى الشوارع وسيدافعون عن أنفسهم.
ويقر أن المواطنين فقدوا الأمل بالفصائل القيادة والسياسية، وهم في أغلبهم متفرجون، فيما طريق عدم كسر المخيم وبقاء مقاتليه وانتصارهم في عكس ذلك، أي ألا يبقى المواطنون متفرجون، بل في أن يكونوا جزءا من الحاضنة الشعبية للمقاومة والمخيم.
ويختم مطالبا بكسر كل العقليات التي تتطلع للوطن على أنه مناطق جغرافية، معتبرا أن إرث صفقة القرن، الذي ما زال راسخا في العقول، يجب التخلي عنه، فمواجهة المخيم الأخيرة التي رفعت أسهم المقاومة يمكن ان يكتب لها أن تعيد خريطة الوطن من جديد والالتحام خلف مشروع وطن واحد، وهو أمر ممكن في حال شعر الشعب أنه جزء من هذا المشروع.