خلال الأسابيع الماضية أبرزنا الأهمية القصوى لمداخل الوحدة العربية التضامنية، والانتقال التراكمي إلى الديمقراطية السياسية والاقتصادية العادلة، وترسيخ مبدأ وقيم ومتطلبات العدالة الاجتماعية، التي طرحها المشروع النهضوي العربي كطريق للخروج من حالة الضعف والتمزق والاستباحة الخارجية والتخلف التاريخي التي يعيشها الوطن العربي حالياً. وأكّدنا مراراً وتكراراً للجيل الشاب القادم بأنه سيكون من شبه المستحيل الخروج من تلك الحالة المريضة، من دون تفعيل تلك المداخل من قبل نضال جماهيري عربي تضامني تقوم به قوى المجتمعات المدنية العربية في صورة كتلة تاريخية عربية، هي الأخرى وحدوية تضامنية. اليوم نود إبراز المدخل الرابع في المشروع النهضوي العربي، الذي لا يقل أهمية عن أي من المداخل الثلاثة: إنه مدخل الاستقلال الوطني على مستوى القطر والاستقلال القومي على مستوى الوطن العربي.
إن الأمة العربية تواجه نوعين من الاستعمار الذي يقوّض ركائز الاستقلالين الوطني والقومي، وهما الاستعمار الصهيوني، والاستعمار الكلاسيكي. أما الاستعمار الصهيوني فيقوم على هدف اجتثاث الوجود العربي في فلسطين، شعباً وتاريخاً وثقافة وديناً وحضارة، وإبداله بوجود يهودي صهيوني صرف. ولعل وضوح هذه النيّة كان على العرب أن يعوها، بعد أن رفض الكيان الصهيوني المبادرة العربية التي طرحها العرب منذ حوالي خمس وعشرين سنة، والتي احتوت على تنازلات لا حصر لها ولا عد في سبيل حلّ الموضوع الفلسطيني بشكل قانوني وعادل. ومع ذلك، وبصلف واستعلاء، بل بعنجهية واستهزاء سنة بعد سنة، رفضت تلك المبادرة من قبل الكيان الصهيوني، على الرغم من تجديد عرضها من قبل العرب المرة تلو المرة.
الأمة العربية تواجه نوعين من الاستعمار الذي يقوّض ركائز الاستقلالين الوطني والقومي، وهما الاستعمار الصهيوني، والاستعمار الكلاسيكي
وهنا نحن الآن نواجه مذبحة غزة أمامنا، وندرك أن هذا الاستعمار لن توقفه قوانين دولية، ولن تحكمه قيم أخلاقية إنسانية، ولن يقبل بأقل من أسطورة «إسرائيل الكبرى» وما تنطوي عليه من ادعاءات دينية وتاريخية كاذبة، ومن هيمنة شاملة على الشرق الأوسط برمّته. وبالتالي لا حاجة للدخول في تفاصيل موضوع أصبح عبر الثمانين سنة الماضية كابوساً أمنياً وسياسياً وثقافياً ووجودياً، لا يسمح لهذه الأمة أن تلتفت إلى أي شيء سوى مواجهته، ومواجهة القوى الاستعمارية الغربية التي تسنده وتغذّيه، على حساب التنمية العربية في كل الحقول. هذا الاستعمار الصهيوني واضح وضوح الشمس، بينما إشكالية رجوع الاستعمار الكلاسيكي تتخفّى خلف ألف قناع وخدع وتسميات، فالغالبية من الأنظمة العربية قبلت، إما برجوع الجيوش الأجنبية فوق أراضيها، متعللة باسم ضرورات الأمن المشترك مع دول الاستعمار السابقة، وإما ارتضت أن تخضع الكثير من ملفّات الأمن والاقتصاد والسياسة لشروط وإملاءات مؤسسات العولمة التجارية النيوليبرالية. وبدلاً من أن يواجه العرب، بصور قطرية عاجزة، ذلك التدخل والوجود الاستعماري بصورة تضامنية كفؤة، أصبحوا دولاً تهرب إلى الأمام وتلوم بعضها بعضا، أو توجه الاتهامات إلى هذه الجارة المسلمة أو تلك. ودخلت كل مماحكات الطائفية والعرقية والمناطقية فزادت قتامة الصورة وبؤسها. ولم يقتصر ذلك العجز، ولا تلك الأخطاء والخطايا على أنظمة الحكم، وإنما شملت مواقف وتصرفات وخطابات الكثير من مؤسسات المجتمع المدني، والكثير من الموتورين الحمقى الذين يسيئون يومياً استغلال شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية. وأصبح المجال مفتوحاً لمجانين الجهاد التكفيري الإرهابي ليدخلوا الساحة وليصبحوا أهم المجنّدين بالوكالة من قبل قوى الاستعمار المختلفة.
استعمار صهيوني وكلاسيكي وما بعد حداثي، مترامي الأطراف، مهيمن على قوى المال والإعلام الدولية، مدعوم ومبرّر من قبل مراكز بحوث ودراسات مدّعية الاستقلالية ومدفوعة الأجر… استعمار كهذا هل يمكن مواجهته من قبل قوى نضالية قطرية متباعدة محدودة العدد والإمكانيات؟ الجواب القاطع هو كلا. لن تنجح، في اعتقادنا، مواجهته إلا بوجود مشروع نهضوي عربي، يحتوي على مداخل أساسية مشتركة مثل الذي عرضنا وسنعرض، تتبنّاه قوى نضالية تضامنية عربية موحدة الأهداف القومية ومتناسقة الوسائل النضالية.
شابات وشباب هذه الأمة يحتاجون أن يعوا ذلك بكل عمق ويأخذوه بعين الاعتبار في كل حراك نضالي ثوري أو سلمي مستقبلي، وإلا فإننا سنظل ندور في الحلقة المفرغة التاريخية: حلقة الهبّات ثم العجز أمام الأهوال التاريخية التي عاشتها وتعيشها الأمة العربية.
كاتب بحريني