قيل في شيخ الشهداء عمر المختار الذي كافح الاستعمار الإيطالي منذ دخوله ليبيا 1911 الكثير والكثير نثراً، وشعراً تغنى ببطولاته شعراء أبرزهم أحمد شوقي، خُلدت ذكراه العطرة في أذهاننا وطبعت في قلوبنا، ولقد جسد شخصه الممثل العالمي انطوني كوين في فيلم (أسد الصحراء) تجسيداً رائعاً. غير أن أروع من جسده واستلهم حبه للوطن وجعله واقعاً ملموساً إيفاءً لحقِّه علينا، نبتة من ذلك الجهبذ ورفاقه، نبتة ترعرعت وضربت بجذورها في أرض مليئة بالأشواك فأثمرت أولئك الأحرار ثوار 17 فبراير، الذين قدموا أرواحهم فداء، فأعادوا لنا الثقة في تاريخنا الجهادي واجتثوا اليأس من قلوبنا وجعلونا ننقب في نفائس ذلك الشيخ الجليل نستشعرها أكثر فأكثر، نستذكرها ونثمنها أعظم تثمين. ذلك الضرغام ورفاقه في الجهاد، الذين، أهدونا وطناً فكان حراً بجدارة. فمثابرته على الجهاد لأكثر من عشرين عاماً، وهو شيخ طاعن في السن، ولا سبيل لرضوخه للعدو، رغم الإغراءات الكبيرة إلى أن قبض عليه بعد وقوع حصانه، حصدنا ثمارها محلياً وعالمياً، إذ استقطبت انتباه الكثير من المسلمين والعرب، وكان جهاده نبراساً يضيء طريق الكفاح لمقاومين عرب آخرين، كانت أوطانهم تعاني من نير الاستعمار حينها ويستحثهم على المضي فيه ولا يزال. وعليه حاز مكانة كبيرة في أذهان الناس في العالمين الشرقي والغربي، خاصة مشهد إعدامه الأربعاء 16 ايلول/سبتمبر 1931، بعد محكمة صورية، لكنه كان شامخاً صامداً، بشهادة العدو فريق أول رودولف غراتسياني نفسه في مذكراته: ‘وعندما حضر أمام مكتبي تهيَّأ لي أني أرى فيه شخصية آلاف المُرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراويَّة. يداه مُكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أُصيب بها أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطا لأنه كان مُغطى الرأس بالَجَرِدْ ويجرّ نفسه بصعوبة نظرا لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يُخيل لي أنَّ الذي يقف أمامي رجلٌ ليس كالرجال: له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسر.. عندما وقف ليتهيأ للانصراف، كان جبينه وضاء كأنَّ هالة من نور تُحيط به، فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض المعارك والحروب العالمية، والصحراويَة، ولُقبت بأسد الصحراء، ورُغم هذا فقط كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنبس بحرف واحد، فانتهت المُقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه للمُحاكمة في المساء، لقد خرج من مكتبي كما دخل عليّ وأنا أنظر إليه بكل إعجاب وتقدير’. وهو كما حارب الإيطاليين حارب الاستعمار الإنكليزي بانضمامه إلى أحمد الشريف السنوسي في غارته على الإنكليز في مصر عبر الحدود عام 1915. والفرنسي عندما كان قائداً للحركة السنوسية في حربها ضد الفرنسيين في تشاد عام 1900. غير أننا عندما نحتفي ببطلنا لا نغفل أبطالاً كثراً كانوا ولا يزالون رموزاً لكل الليبيين ومدعاة فخر واعتزاز لهم وللعرب أجمعين، ومثالاً يحتذى في العالم كله. وإطراؤنا لهذا الشيخ الذي رفع له حين إعدامه غراتسياني قبعته إجلالاً، والذي ظل يجاهد لآخر حياته، وهو بدأ جهاده في السنة الثالثة والخمسين من عمره، لا يقلل ذلك من دورهم الفذّ في نضال مستميت جنينا ثماره. هذا المجاهد سطر ملحمة يشدَه لها التاريخ نفسه، ولَتكريم البطل الشهيد منذ فترة مضت في صقلية الايطالية خير مثال على ذلك. قدمت ليبيا الكثير من أبطالها وأبنائها كسائر نفائس شعبنا العربي، وبذلت الغالي والجّم لاسترداد أرضنا وبالتالي كرامتنا وتاريخنا العظيم الذي حاول الفاشي طمسه والنيل منه، إذ خسرت ليبيا الكثير من الأرواح بسلاح لا يقارن بعتاد العدو المتطور في ذلك الحين، فكان عدد من قدموا ارواحهم فداء ما يقارب الـ750 ألفاً، وكان الشعب الليبي حينئذ لا يتجاوز المليون ونصف المليون، ناهيك عن عدد المرحلين إلى جنوب إيطاليا للعمل بمزارعها هناك وتوطين الإيطاليين بدلاً منهم في ليبيا واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من إيطاليا. أولئك الرفاق في الجهاد قطعوا شوطاً طويلاً ومشواراً شاقاً، ولا يتسع هذا المقال المتواضع لذكرهم، وإيفائهم حقهم من أمثال المجاهدين سليمان الباروني وعبد النبي بلخير ورمضان السويحلي والفضيل بو عمر وبو مطاري، الذي كان من ضمن الذين قطعت رؤوسهم بغية تشويه جثامين قادة الكفاح والتشفي منهم، وكذا ضرب الروح المعنوية للمجاهدين والشعب الليبي وإضعافها، حتى يكفوا عن المقاومة. وإمعاناً في ذلك عرضت تلك الرؤوس في شحات ثم درنة وبنغازي. وهي سياسة دأب عليها هؤلاء الفاشست فهي موروث قديم استقوه من أجدادهم الرومان. لقد تعرض الجهاد الليبي إلى تشويه كبير، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أطلق اسم الفضيل بوعمر،على كتيبة باتت تضرب الليبيين في ثورة 17 فبراير، مما أحدث نفوراُ من هذا الاسم النبيل من جيل لا يفقه عن هذا البطل شيئاً، وهو رمز من رموزنا الأفذاذ. هذا التاريخ الجهادي المنقطع النظير كفـــــيل بأن يأخــــذ حقه في التكريم والتبجيل، وذلك بالتأريخ له بشكل منصف وتحري الدقة في تدوينه، بوضع أيد أمينة على إرث نفيس ملك لليبيين، وصقله لتُزال عنه شوائب دُسّت لتزييفه مما يؤهلنا لتقديمه على طبق من ذهب، كما فعل الأسلاف لأجيال تستقي منه بطولات فذّة فتحذو حذوها وتستوعب تلك القيم النبيلة. نحن في حاجة ماسة للإطمئنان على هذا التاريخ والحرص عليه، بعهده لمختصين ملمين به نركن إليهم. فلا نطلق العنان لفئة تستفرد به، ونحن هنا لا نقصد أحداً بعينه، فتحوزه تلك الفئة بالاستحواذ عليه فتعبث بمنجزاتنا، وتصيغ ذلك التاريخ وفق أهوائها كما كان دأب الطاغية القذافي، الذي، سطا على هذا الإرث وجيرّه لحسابه فصدّر والده بو منيار وجعله على رأس المجاهدين ليؤطر لنفسه ويحقق مكسباً مزيفاً بجدارة فيعتلي عرش الجهاد، لنفيق بين عشية وضحاها على سليل مجاهدين صنعه خيال مريض، يستعير عباءة مجاهدين، لهم باع طويل في الكفاح، ليست على مقاسه ولا تليق به، لتخفي نقائصه. وفي هذا الصدد يجب التعامل مع تاريخنا المشرف باحترام وشفافية، بسرد الرواية الوطنية كما هي، بعرض الحقائق التاريخية بعد تمحيصها وتوثيقها، ومحاولة استرداد بقية الوثائق من إيطاليا وهي كثيرة، وذلك بممارسة الضغط السياسي والدبلوماسي عليها وهي وعدت بذلك، فلا ضير في المتابعة الجدية والإصرارعليها والمطالبة بفتح المتحف الأفريقي الإيطالي لتسليم رؤوس مجاهدينا، لتوارى في أرض الوطن لاستعادة كرامتنا والإيفاء بحق الشهيد وحق أبنائه في ذلك، وتنزيه الحقائق وإسقاط القناع عن التعتيم عليها، لا ليعرضها الفاشي مباهاة والنيل عبره من كفاحنا ضده، فكفى دساً لذلك التاريخ، وتشفياً وغروراً على حساب أمجادنا. فهل نسي الفاشست تلك المعارك الضارية وأشهرها معركة القرضابية، التي، كبد فيها أجدادنا العدو خسائر فادحة، والتي، تجلت فيها روح الوحدة الوطنية للشعب الليبي بأسمى معانيها كما ضراوته. كما تجلت بعد سنين عدة، مظاهر ثورة 17 فبراير، التي، كانت نقطة تحول كبيرة في تاريخنا النضالي والتي بهرت العالم كله. جاءت لتضمد جراح هذا الشعب وتطوي مرحلة بائسة فتت من عضدنا، وقضت على طموحاتنا وأحلامنا ونبذتنا من العالم، ففرضت علينا عزلة ضقنا بها ذرعاً، وشوهت سمعة ليبيا فلم يعد العالم يرى ليبيا ويقيمنا إلا عبر شطحات القذافي وأفكاره المجنونة وطقوسه الغريبة وتلك النرجسية التي أوقعته في حبائلها وألقت بنا بالتالي في غياهب الحيص والبيص وعتمت كل شيء حولنا. ولم تجن ليبيا جراء ذلك إلا خسائر فادحة على الصعيد المعنوي والمادي، مثل ذلك الحصار الاقتصادي الذي جنى الشعب الليبي عواقبه الوخيمة. لقد فصل بيننا وبين تلك المرحلة الجهادية التي وطّأت بجدارة لمرحلة الاستقلال، وأجهض مسيرة حثيثة في عهد الاستقلال، كانت تؤسس لأولى خطوات التحدي والتطور في جميع الاتجاهات وتتوج ذلك الكفاح المشرِّف، وتفيه حقه ليثمر بنياناً وعزة. والآن ألا يستحق هذا الوطن أن يزدان بكنوز تاريخ مجيد في ماضيه وحاضره، ونقي تلك الكنوز من ذلك التغييب والسطو.