في إسبانيا في شهر فبراير من عام 1936 أقيمت انتخابات ديمقراطية أتت لأول مرة بالجبهة الشعبية حين انتخب ‘مانويل أنازا’ رئيسا للبلاد، وتم تشكيل حكومة يسارية لأول مرة في تاريخ أسبانيا. ولكن لم تنل تلك الحكومة رضى الكثيرين بسبب أدائها. لقد كان الكثيرون يطمحون لإصلاحات سريعة بالبلاد… ورأى بعضهم أن الرئيس المنتخب كان ضعيفا ولم يكن في رأيهم قدر المسؤولية وادّعى هؤلاء أن هذا الرئيس الجديد حاول السيطرة على كل مقاليد الحكم بالبلاد.
برر الرئيس المنتخب الأمر بأن الجو لم يكن مناسبا بعد لمشاركة الآخرين طالبا من شعبه الصبر لإتمام الاصلاحات المطلوبة وأن أشهرا قليلة لا تكفي للتغيير وأن جماعته بالجبهة الشعبية قادرون على إدارة الأمور وتحسين وضع البلاد، لكن المعارضة الأسبانية لم تمهل الرئيس المنتخب بصناديق الاقتراع الزمنَ الكافي فشرعت في التظاهر ضده، لكن سرعان ما يقرر المؤيدون للرئيس التظاهر من أجل بقائه للحفاظ على الشرعية وعلى الديمقراطية التي ولدت بعد طرد الملك ألفونس الثالث عشر بعد ربيع أسباني كبير عام 1931.
(2)
ارتكب الرئيس المنتخب ‘أزانا’ خطأ فادحا عندما قرر التخلص من العسكريين المهمّين في البلاد ومن هؤلاء العسكريين جنرال يدعى فرانكو تم إبعاده إلى جزر الكناري الأسبانية.
الجنرال فرانكو انتظر فرصة الانقلاب سنوات عديدة
وكان فرانكو عسكريا مميزا وطموحا تدرّج بسرعة في رتبه العسكرية.
كان الصراع عنيفا بين المتظاهرين المؤيدين والمعارضين للشرعية الديمقراطية، وكان الجنرال فرانكو يترقب الوضع من جزر الكناري باهتمام.
يروي المؤرخون أن الجنرال فرانكو اتّصل سرّا بالجبهة المعارضة للرئيس المنتخب ديمقراطيا وأن الجنرال طلب من كتلة المعارضة تبرير انقلاب عسكري يكون تعبيرا على رغبة الشعب الذي خرج للشوارع.
في تلك الأثناء كان الخوف يسيطر على مناطق أسبانيا وكانت أعمال العنف تنتشر في البلاد، وعمّت المظاهرات شوارع أسبانيا بين مؤيدين للرئيس المنتخب وبين معارضيه، واتهمت المعارضة مسلحين يساريين بالقيام بجرائم قتل الفلاحين ورجال الدين وحملت تلك المعارضة حكومة آزانا مسؤولية ذلك الانفلات الأمني.
(3)
رأى الجنرال فرانكو أن البلاد على شفا حرب أهلية بسبب ما يحدث في شوارع مدريد. إنها فرصة مواتية انتظرها فرانكو طويلا منذ سقوط الملكية عام 1931 ليبدأ في يوليو عام 1936 التدخل من أجل وحدة أسبانيا وكان اغتيال المعارض الأسباني ‘كالفو سوتيلو’ شرارة لبداية الانقلاب حيث اتهمت المعارضةُ الحكومةَ المنتخبة بأنها وراء ذلك الاغتيال.
في البداية ظن فرانكو أنه ينعم بشعبية كبيرة بين المواطنين والعسكريين وأن الانقلاب سيتم بطريقة سلمية، لكن الجنرال لم يتمكن من السيطرة إلا على مساحة تقلّ عن نصف البلاد بسبب مقاومة المؤيدين للشرعية.
بدأ فرانكو انقلابه من جزر الكناري ليصل سريعا إلى المغرب التي كانت يومها تحت الوصاية الإسبانية.. وكانت المظاهرات وقتها على أشدها في تلك المحمية.
في البداية اضطر الانقلابيون إلى إطلاق النار على المتظاهرين ومات حوالي 189 مواطنا من الرافضين للانقلاب لكن سرعان ما ازداد الوضع خطورةً بعد أن تحولت المظاهرات من طابعها السلمي إلى احتجاج متظاهرين يحملون السلاح.. واستعان الجنرال فرانكو كما يقول المؤرخ البريطاني ‘أنطوني بيفور’ في البداية بالمواطنين المغاربة وضمّهم إلى صفه لقتال الجمهوريين الذين وصفهم بالعلمانيين الذين يريدون إلغاء كلمة الله.
(4)
لم يتمكن فرانكو من السيطرة على مدينتين مهمتين هما مدريد وبرشلونة حيث قام المنادون بالشرعية بالتظاهر ومقاومة الانقلاب العسكري، ودفعت مدريد الثمن باهظَا فسرعان ما تلقى فرانكو مساعدات عسكرية من دول أخرى أهمها ألمانيا وإيطاليا، وتحملت ثلاث سنوات من الحصار والدمار. في الوقت نفسه اتجهت روسيا لمساندة صف الرئيس المنتخب والذى حظيَ أيضاً بمساندة المثقفين في العالم أجمع .. هؤلاء المثقفون وقفوا بقوة في صف الشرعية الديمقراطية، ودفعوا ثمنا كبيرا من أجل وقفتهم تلك ولعل من أشهر الشعراء الذين دفعوا الثمن هو الأسباني ‘فيديريكو غارثيا لوركا’ الذي أعدمته قوات الجنرال فرانكو في الشهر التالي بعد سقوط غرناطة.. وكان من بين من ذهبوا للقتال في أسبانيا من أجل الديمقراطية والحفاظ على الشرعية كتابٌ مشهورون مثل الفرنسي أندريه مالرو والأمريكي أرنست همنغواي.
الروائي الأمريكي أرنست همنغواي حمل السلاح دفاعا عن الديمقراطية.
المنطق العسكري (الذي كان وقتها يختلف عن منطق المثقفين) رأى أن حل الأزمة لن يأتي إلا بحصار مدريد ودكّها بالطائرات.. فعمّ الحزن المثقفين الشرفاء في العالم.. وكتب الشاعر بابلو نيرودا أروع قصائده عن تلك الحرب التي راح ضحيتها أكثر من مليون شخص في سنوات قليلة.
(5)
حكم الجنرال الفيفي (آسف .. أعني الجنرال فرانسيسكو فرانكو) أربعين عاما بالنار والحديد ..لكن الديمقراطية عادت في نهاية المطاف لأسبانيا رغم أربعة عقود من المرارة والألم.
يقول نيرودا في قصيدة عن حصار مدريد:
‘ في يوليو
يباغتك الحزنُ يا مدريد
وأنتِ في هدوء تفرحين
تحت أشعة من عسل
كان طريقك صافيا
وأحلامك نقية
…
ها أنت تدافعين وتنزفين
تجرين في الشوارع
تاركةً أثار دمائك الطاهرة
في كلّ مكان
وبصوتٍ كالهدير
تنادين وتصرخين
بوجهٍ جديد ملطخ بالدماء..’
ملاحظة : اعتمدنا في هذا النص على أحداث الحرب الأهلية الأسبانية كما رواها المؤرخون وأيّ تشابه مع أحداث تاريخية أخرى هو من باب الصدفة.
لمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى المصادر التالية:
باللغة الانجليزية:
Antony Beewor: The Spanish Civil War، first edition Orbis، London، 1982
وباللغة الفرنسية:
Michel del Castillo: Le Temps de Franco، premiere edition، Fayard، Paris، 2008