لطالما كان لمدرّجات ملاعب كرة القدم دورٌ في بناء عصبيّاتٍ بين مجموعات تنام وتصحو منتظرةً التئام شملها لمواكبة فريقها، فتعيش معه كل أسبوع لحظات الحماس والحسرة والغضب والفرح أو الكآبة، وتهتف وتغنّي وتُطرب وتنتفض أجساد أعضائها وكأنها جسد واحد عملاق متناسقةٌ حركاته ومتكاملة.
ولطالما أتاحت المدرجّات إياها صداقات وتحالفات وعداوات ونقاشات صاخبة ينطق فيها الفرد بلسانه، ثم يحيل رأيه ومشاعره على الدوام إلى جماعته، يُفتي باسمها ويُعمل تقييماً في كل شاردة وواردة، فيسأم ويشتم ويتفاخر ويتصدّى لما لا يعجبه من قرارات مدرّبين وأجهزة فنّية مُسدياً عن بُعدٍ النصح لهم أو مستنكراً خياراتهم إن لم تُسفر نتائج مُبهجة. وغالباً ما لا يتّفق الفرد هذا في نُصحه واستنكاره مع كثرٍ من أقرانِه، فلا يلتمّون إلا على التعصّب للجماعة المشتركة ولتقذيع الخصوم ولعن طرف يعتبرون صفّاراته مُجحفةً في أدقّ اللحظات: حكّام المباريات، وهم التجسيد الظرفي للسلطة. السلطة المُهابة، والسلطة المكروهة، والسلطة المشكوك سلفاً بنزاهتها، أو السلطة المفترض بدايةً ممالقتها تجنّباً لِجورها (وبطاقاتها الصفراء والحمراء)، ثم التصعيد تدريجياً ضدّها لتحذيرها من التمادي في الظلم في انتظار احتمالات انكسار الجرّة نهائياً معها والتفرّغ لحظتها لتقريعها.
وإذا كانت عصبيّات المدرّجات هذه وسلوكيّاتها وما يدور حولها كونيّة الطابع، تتكوّن في كل بلد أو مدينة وِفق خطوط انتماء اجتماعية أو ترابية أو على أساس توارث عائلي أو جهوي أو حتى سياسي وتعبّر عن نفسها بأساليب مختلفة، فإنها في البلدان المفقودة فيها أدوار الحيّز العام المواطنيّة ومساحات التعبير الحرّ وحقوق الانتظام الحزبي أو النقابي تأخذ طابعاً خاصاً، إذ تصبح في علاقتها بالقضايا “الوطنية” تعويضاً عمّا هو مفقود أو محظور أو مراقب. تصبح منطلق تعبير عن غضب وعن احتجاجٍ يتخطّى حدود الملعب والفريق و”عدالة التحكيم”، ويتحوّل موقعها – أي المدرّج – إلى مساحة سياسية بامتياز، تحريضية وتعبويّة تُزيل كلّ ما يُتعارف على كونه خطوطاً حمراء في مواقع/أماكن أُخرى.
هكذا، تزدهر في المدرّجات شعارات انتقادية للأوضاع السائدة، وتنتشر أهازيج معارضةٌ للسلطات السياسة والاقتصادية والعسكرية وساخرةٌ من كلّ ما له هالة مفروضة على الناس. وتتبلور بموازاتها ثقافة تضامن كرويّ واجتماعي بين المشجعين المتراصّي الصفوف، الوافدين بأكثريّتهم من أحياء المدن وأطرافها الشعبية، تصل حدود تحدّي رجال الأمن الموجودين، أو حتى الاصطدام بهم إن هدّدوا أو حاولوا الاستفراد ببعض أعضاء الجماعة. وثمة طقوس وسط كلّ هذا تتّخذ مصادفة بدايةً، ثم تصميماً وانتماءً لاحقاً، من مكانٍ محدّد في المدرّجات، مركز الهتاف والموقف الأكثر راديكالية تعلّقاً بالفريق وبغضاً بالسلطات. ويتحوّل القابعون في هذا المكان مع الوقت إلى مجموعة يُعرَّف عنها باسمه، وكأن في الاسم نفسه إشارة واضحة إلى الهويّة، أو يُطلقون هم على أنفسهم إسماً جماعياً يبرّره اتخاذهم الدوري للمكان إياه مركزاً للإنشاد ورفع القبضات والرايات الضخمة وإشعال النار الاحتفالية أو إعلاء الصوت الأكثر تطرّفاً.
المدرجّات المتمرّدة من مصر إلى المغرب فالجزائر
ليس مفاجئاً إذاً أن تكون مدرّجات كرة القدم في العديد من البلدان العربية هي الأمكنة الوحيدة (إذا ما استثنينا بعض المساجد أو مواقع الفعل النقابي) حيث يمكن الاحتشاد و”التظاهر” والتعبير الجماعي الصاخب عن مواقف من الشأن العام. يظهر الأمر جليّاً في مصر والمغرب والجزائر، ثم في تونس، وعلى نحو أقلّ في الأردن. وحتى في مواضع تعذّر فيها حصوله، كما في سوريا، فإنه سرعان ما يبرز حين يحطّم الناس جدار الخوف ويطوفون الشوارع. ولنا في مدينة حمص وحارس مرمى ناديها “الكرامة” عبد الباسط الساروت وحركات أجساد رفاقه ومُريديه وهتافاتهم خلال التجمّعات الشعبية في العامين 2011 و2012 مثال محقّق على سرعة انتقال طقوس المدرّجات إلى الشارع وتحوّلها من رياضية إلى سياسية.
على أن حالة النادي “الأهلي” المصري وجماهيره ومجموعات مشجّعيه “الآلتراس” (أولئك الأكثر تعصبّاً)، المتجمهرين عادةً في “التالتة شمال”، أو “الشياطين الحمر” كما يُسمّون أنفسهم، تبقى حالة استثنائية حتى الآن، لما قاموا به خلال الثورة المصرية العام 2011 من مشاركة فاعلة في التظاهر ثم في الدفاع عن ميدان التحرير والتصدّي الحاسم للبلطجية في “موقعة الجمل” الشهيرة، ولِما تعرّضوا له من مذبحة ذهب ضحيّتها 74 منهم بعد عام واحد على أيدي البلطجية أنفسهم في ملعب بورسعيد، بتواطؤ من القوى الأمنية هناك، في ما بدا انتقاماً سياسياً منهم. ولم تنجُ بعض المجموعات المؤازرة لنادي “الزمالك” (“الفرسان البيض” – أصحاب “التالتة يمين”) من القتل الجماعي لاحقاً، فاستُهدفت بدورها من الأمن في شباط/فبراير 2015 وقُتل 17 من أعضائها في القاهرة. ولعلّ الأغاني التي تلت مجزرة بورسعيد، لا سيما تلك التي دأب على إنشادها الأهلاويّون (“حكايتنا – آه يا مجلس يا ابن الحرام” في إشارة إلى المجلس العسكريhttps://bit.ly/2XU14Zn) تُظهر حجم التحدّي والمواجهة بين مدرّجات الكرة والسلطات، التي فرضت بعد الانقلاب العسكري على النادي “الأهلي” التبرّؤ من “الآلتراس” ومن الأخيرين حلّ مجموعاتهم أو التعرّض للمزيد من القتل والاعتقال.
وفي العام الماضي، برزت مدرّجات ملاعب “الدار البيضاء” في المغرب، لا سيّما مدرّجات نادي “الرجاء”، وهي تنشد “في بلادي ظلموني” https://bit.ly/2HSslYm، مواكبةً موجات احتجاجات اجتماعية وسياسية في المملكة بدأت العام 2017 وتفاعلت وما تزال، قبل أن تخطف مدرّجات الملاعب الجزائرية الأضواء قاطبة منذ أشهر، وتتحوّل واحدةٌ من أغانيها إلى الأغنية الأكثر رواجاً في الشوارع إثر بدء المظاهرات والاحتجاجات ضد ترشّح بوتفليقة لولاية خامسة وضد النظام وفساده.
فبعد تنافس مجموعات “آلتراس” نوادي العاصمة الجزائرية على تضمين أغانيهم هجاءً للسلطات ولصوص النظام وإطلاقاً لهتافات من نوع “كليتوا البلاد يا الحقّارين” أو “يا السرّاقين” (أكلتم البلاد يا ظالمين وسارقين)، تحوّلت أغانيهم منذ فترة إلى رفض “العهدة الخامسة” لبوتفليقة، ولمعت أنشودة “لا كازا دل مُراديّة” لمجموعة “آلتراس أولاد البهجة” المؤازر لنادي “الاتحاد الرياضي” لِما فيها من جذرية سياسية في التعامل مع النظام بعيداً حتى عن العلاقة بكرة القدم وديناميّاتها. وعنوان الأغنية كافٍ لإشهار مضمونها، إذ يحيل إلى مسلسل “لا كازا ديل بابل” الإسباني (أو “قصر الأوراق”، والمقصود أوراق المال) الذي تعمل عصابة فيه على تنفيذ أضخم سرقة في التاريخ، فيستلهم المشجّعون الفكرة ويُسقطونها على القصر الرئاسي الجزائري القابع في منطقة المراديّة. هكذا، تتحوّل أغنية مضى ما يُقارب العام على صدوحها في المدرّجات إلى نشيد ثوري يعدّد سِمات الولايات الأربع لبوتفليقة وما رافقها من ابتزاز وتلويح بالعشرية السوداء (حقبة التسعينات) ومغانم شخصية على حساب الناس وموت لِـ”مومياء” الرئيس حتى قبل الوصول إلى “عهدته الخامسة”. ولعلّ في اللحن وفي خفّة الأسلوب وذكاء الكلمات والاستعارات ونقل المشجّعين لها من المدّرجات إلى الشارع مع انطلاق المظاهرات ما حوّلها اليوم إلى ما يشبه “النشيد الثوري” https://bit.ly/2TGfeij.
يمكن الاسترسال بالطبع في موضوع العلاقة بين المدرّجات والسياسة. ويمكن إيجاد أوجه شبه كثيرة بين بعض مدرّجات الملاعب العربية وبعض دور العبادة لجهة الصفوف المرصوصة والانفعال الجماعي والأدعية والإحساس بالرهبة والتضامن في مواجهة الخطر، والاطمئنان إلى الكثرة كعنصر حماية لحظة التحدّي والاحتكاك بالقوى الأمنية. وإذا كان الأمر قد ظهر جليّاً في الثورات في العام 2011، وفتح باباً للبحث السوسيولوجي، فهو اليوم يتكرّر ويتكثّف في الانتفاضة الجزائرية، وسيتيح حُكماً المزيد من البحث والقول في المقبل من الأيام…
* كاتب وأكاديمي لبناني