صنعاء ‘القدس العربي’ أينما اتجهت في أي مقهى كبير في دول الغرب تجد (موكا كوفي Mocha تCoee) وأيضا (موكا لاتيه Mocha Latte) من أبرز علامات القهوة التي تقدم فيه، دون أن يعرف الكثيرون جذور هذه التسمية، التي تعني (بُن المخا) وأصبحت تطلق على أشهر ماركات البن البرازيلية وغيرها.
قد لا يتبادر الى الأذهان أن هذه التسمية العالمية مأخوذة من شهرة الميناء الذي كان يصدر منه البن اليمني ذو الجودة العالية لعقود مضت، وهو ميناء المخا، الذي كان من أشهر موانئ اليمن على ساحل البحر الأحمر، غربي اليمن، والذي خلّد اسمه البن الذي كان يصدّر منه وتراجع دوره التجاري كمدينة وميناء مع تراجع الانتاج اليمني من البن.
كان للمخا، المدينة والميناء، دور تجاري حيوي في القرون الوسطى حين كان أهم وأشهر موانئ اليمن على الإطلاق، خلّد ذكره الرحّالة والمؤرخون الأوروبيون بما دوّنوهُ في كُتبِهم وفي سير رحلاتهم للعربية السعيدة، والذين أعطوا لمحات تاريخية هامة توضح كم كان لهذا الميناء ولهذه المدينة العريقة مِن أهمية وكم لَعِبَتْ مِن أدوار في تاريخ واقتصاد اليمن الحديث.
تقع مدينة المخا غرب محافظة تعز على بعد حوالي (94 كيلومتراً) على ساحل’البحر الأحمر،’واشتهرت المخا لأنها كانت الميناء الرئيسية لتصدير’البن (القهوة) بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر وأخذت قهوة'(الموكا)’وينو)’تسميتها من هذا الميناء اليمني العريق.
وبلغت مدينة المَخا، أوجّها الاقتصادي كمركز تجاري لليمن نهاية القرن السابع عشر الميلادي، حين بلغت ازدهارها في ذلك القرن، وكان البن أهم سلعة يمنية تصدر عبرها إلى العالم الخارجي، إضافة إلى تصدير البخور والصبر والزبيب وأعواد الأراك.
بدأ ميناء المخا يفقد أهميته تدريجيا أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، مع ازدهار ميناء عدن، جنوبي اليمن، الذي اهتم به البريطانيون، وميناء الحُديدة، غربي اليمن، الذي أنشأه العثمانيون آنذاك. كما زاد من تراجع مكانة مدينة المَخا ما عانته خلال حربين متقاربتين دمرتا قلاعها وهدمت منازلها وقصورها الفخمة ومتاجرها الكبيرة، الأولى الحرب العثمانية الإيطالية عام 1911 ميلادية، والثانية الحرب العالمية الأولى حين دمرها البريطانيون في قتالهم ضد العثمانيين عام 1915 ميلادية، يضاف إلى ذلك تراجع إنتاج البن في اليمن بسبب ظهور منتجين جدد للبن في العالم مثل البرازيل والمكسيك.
وطبقا لرواية الرحالة’جيرونيمو لوبو،’الذي أبحر في البحر الأحمر عام’1625”كانت المخاء مدينة صغيرة وذات شهرة ضيقة لكن منذ أن سيطر’العثمانيون’على معظم أجزاء’الجزيرة العربية’أصبحت مدينة هامة بالرغم من أنها لم تكن مكان إقامة الباشا الذي يبعد عن المخا مسيرة يومين، حيث كان يقيم في’صنعاء، وقد اكتسبت أهميتها تلك من القانون العثماني الذي يطالب جميع السفن بأن ترسو فيها وتدفع ضريبة للمرور إلى’البحر الأحمر’.
وعرفت المخا تاريخيا بأنها مدينة وميناء قديم مشهور، ذكرتها النقوش الحميرية باسم (مخن) وقامت بأدوار تاريخية هامة قبل وبعد الإسلام، وقد سجل اسم المَخا في نقوش يمنية قديمة بخط المسند، مثل نقش للملك يوسف أسار، المشهور بـ(ذو نواس الحميري’«
وذكرت مصادر تاريخية عديدة أن مدينة المخا تعرضت لعدة حملات عسكرية من قبل الطامعين في اليمن، أهمها حملات البرتغاليين التي انتشرت مطلع القرن السادس عشر الميلادي على سواحل البحر الأحمر، وكانت هذه الحملات سبباً رئيسياً في تنافس الدولة العثمانية والحكومة البريطانية على منطقة الخليج العربي.
وميناء المخا القديم يقع على الساحل الغربي من المدينة في موقعها الحالي، ولم يتبق من معالم الميناء القديم سوى بقايا أساسات من الحجارة المطمورة بالرمل، على الرغم من أنها كانت تعتبر إحدى المدن التاريخية الهامة، وكانت تضم كثيرا من المواقع الأثرية.
وقال الرحالة الأوروبي نيبور في يومياته التي سجلها عند زيارته للمدينة بين عامي (1762 ذ 1763 ميلادية)، ‘ان المَخا مدينة مأهولة بالسكان ومسورة، بالإضافة إلى السور توجد أبراج للحراسة على طريق مَوْزع منتشرة بين المدينة وبير البليلي، وعلى البحر تطل قلعتان مزودتان بمدافع، وهما قلعة طيار، وقلعة عبدالرب بن الشيخ الشاذلي، وبعض البيوت داخل سور المدينة مبنية بالحجارة بطريقة جميلة مشابهة لطريقة بناء بيوت بير العزب في العاصمة صنعاء، أما أكثر البيوت سواءً داخل السور أو خارجه فإنها عبارة عن أكواخ مخروطية من العشش المبنية بالقش، وفي خارج المدينة تنتشر أشجار النخيل بكثرة، وبين هذه الأشجار توجد حدائق جميلة وكان يضم سور المدينة خمسة أبواب هي’باب العمودي، باب الشاذلي، باب فجير، باب صندل، وباب الساحل’.
‘وأوضح أنه يستدل من الأساسات الحجرية وجود آثار مبنى لمسجد وأحجار دائرية الشكل كانت تستخدم لطحن الحبوب، أمَّا فناء الميناء الذي تصل مساحته حوالي (40 12 متراً)، بُني على أساس خرساني، وفي قمته صحن دائري من معدن النحاس يرتبط بسلم حديد إلى أسفل. ومن مآثر هذه المدينة جامع الشيخ الشاذلي وضريحه الذي يعد من أهم المعالم الأثرية فيها، وينسب إلى الشيخ أبوالحسن الشاذلي وهو أحد مشائخ الطريقة الشاذلية في اليمن خلال القرنين الرابع والخامس عشر الميلادي.
ومع تراجع الدور الاقتصادي والتجاري لميناء المخا في الوقت الراهن، بسبب الاهمال والتهميش الحكومي، تحوّل الى ميناء رئيسي للتهريب بكل أنواعه من وإلى اليمن، ابتداء من تهريب البشر من دول القرن الافريقي الى اليمن ومن ثم الى دول الجوار الغني، مرورا بتهريب’الحشيش والمخدرات والخمور وغيرها، وانتهاء بتهريب الأسلحة، بالاضافة الى تهريب المواد النفطية من اليمن الى دول القرن الافريقي، بسبب رخص سعرها في اليمن، كاحدى المواد الرئيسية المدعوم سعرها من ميزانية الدولة.
ولم يعد ميناء المخاء يذكر في العمليات التجارية إلا في استيراد المواشي من الماعز والأبقار من دول القرن الافريقي وخاصة أيام الأعياد والمواسم الدينية التي يكثر خلالها استهلاك اللحوم الحيوانية.
خالد الحمادي