مدينة دوقا الأثرية التونسية عاصمة النوميديين الأولى ومهد نشأتهم والشاهدة على التعدد الحضاري

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: تقع مدينة دوقا أو دوغا أو دُقّة الأثرية التونسية، بمعتمديّة تبرسق من ولاية باجة بالشمال الغربي على بعد قرابة 100 كيلومتر من العاصمة على هضبة صخرية مرتفعة تطل على سهول خصبة مترامية ممتدة على مرمى البصر. فتطالعك وأنت في أعلى مدرجات مسرحها أو في معابدها وساحاتها العامة وحماماتها وطرقاتها ومراكز الحكم فيها أو حتى من أي بيت أثري من بيوتها أو قصورها الفخمة، بيادر القمح في فصلي الشتاء والربيع والزياتين التي تضفي على المكان سحرا وقداسة على مدار العام.

أصل التسمية

يعود أصل تسمية دُقة أو دوقا إلى الكلمة الأصلية «توغا Thugga» وتعني باللغة المحلية القديمة الجبل الصخري، باعتبار المدينة تبدو للقادم إليها عبر طريق جبلية من مدينة تبرسق مندمجة في جبلها الصخري أو هضبتها الصخرية وكأنها منحوتة فيها باعتبارها قد بنيت بحجارتها. فلون الحجارة التي تشكلت منها مباني المدينة هو ذاته لون الجبل، حتى أن المرء يحتار في أمره حول مكان الحد الفاصل بين المدينة والجبل، خاصة بعد أن تحولت المدينة إلى منطقة أثرية، فتبدو حجارة جبلية مصقولة بفعل عوامل الزمن في أحيان كثيرة كأنها بناء مهدم، وبالمقابل يبدو بناء منهار بفعل الزمن كأنه امتداد للجبل الصخري.
وقيل أيضا أن ملك جزيرة صقلية المرتبطة تاريخيا وحضاريا بالبلاد التونسية أغاثقلس كان معجبا كثيرا بمعمار مدينة دُقة وأطلق عليها تسمية «توكاي» ووصفها بأنها المدينة الجميلة التي تم إنشاؤها بحجر كبير. ويقال أيضا أن التسمية أساسها جذر لغوي نوميدي مشكل من حروف التاء والباء والجيم TBG وهو ما يشير إلى معنى الحماية باعتبار دُقة مدينة محمية بفعل موقعها وتحصيناتها.
وبالفعل فإنه يمكن اعتبار دقة مدينة محصنة كما يجب وقادرة على صد أي عدوان سواء من خلال موقعها المرتفع الذي يجعل عسسها في أبراج مراقبتها خلال العقود الغابرة قادرين على رصد أي غاز وهو قادم من مسافة بعيدة والاستعداد له كما يجب، أو من خلال وجود جرف شديد الانحدار من الجهة الشمالية الشرقية يجعل مأمورية الغزاة في الصعود إليها شديدة الصعوبة ومرهقة ومحفوفة بالمخاطر. زد على ذلك فقد قام من استوطنوا عاصمة النوميديين الأولى على مر العصور بتحصينها بالخنادق والأسوار والأبراج ومختلف أنواع التحصينات وهو ما جعل تمردها وعصيانها وانفصالها عن أي دولة قائمة أمرا غير عصي على أصحاب القرار فيها، وهو ما يفسر نشأة مملكة نوميديا في المدينة مع اقتراب نهاية عصر قرطاج وتراجع نفوذها وانحسارها وانكفائها على ذاتها.
فمدينة دُقة أو دُوقة الأثرية المسجلة منذ سنة 1997 على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «يونسكو» هي العاصمة الأولى لمملكة نوميديا الشمال أفريقية ومهد نشأتها ومنها تمددت باتجاه الغرب. وهي مسقط رأس ماسينيسا ملك النوميديين الذي غدر بقرطاج في آخر حروبها مع روما وما زال قبره قائما فيها إلى اليوم شاهدا على حقبة تواجدت فيها دولتان في تونس الحالية وذلك مع تراجع نفوذ قرطاج وانحسارها بعد قرابة ثمنمئة سنة من المجد والهيمنة على غرب المتوسط والمحيط الأطلسي.

تاريخ حافل

لقد نشأت نوميديا من خلال دُقة في القرن الرابع قبل الميلاد من رحم حضارة قرطاج التي نشأت في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، واستفادت نوميديا من التفوق الحضاري للقرطاجيين في كافة المجالات. ثم استفادت أيضا من تراجع نفوذ قرطاج في أواخر عهدها لتتوسع على حسابها ثم لتحل محلها نيابة عن الرومان الذين فوضوا النوميديين لنيابتهم في شمال أفريقيا خلال السنوات الأولى التي تلت سقوط قرطاج، قبل أن يقرروا حكم المنطقة مباشرة بأنفسهم ويدخلوا في صراع مع حلفائهم السابقين من النوميديين انتهى بالقضاء على الثائر النوميدي يوغرطة الذي يقع معقله، أو مائدته بقلعة سنان من ولاية الكاف التونسية.
وكدليل على خضوع مدينة دُقة لنفوذ قرطاج في بدايات تأسيسها في القرن الرابع قبل الميلاد فقد كانت فيها، وفقا لكل المصادر التاريخية القديمة، مؤسسات مدنية منتخبة، وذلك أسوة بجميع المدن التي كانت تحت سلطة قرطاج في شمال أفريقيا والممتدة من خليج سرت في ليبيا إلى طنجة المغربية. لكن نفوذ قرطاج عليها بدأ ينحسر في القرون الموالية إلى أن أصبح حكمها ملكيا وراثيا خلافا لقرطاج الجمهورية الديمقراطية واستفرد به أبناؤها من ملوك النوميديين الذين انتقلوا منها إلى عواصم أخرى.
لقد خضعت دقة رسميا للرومان سنة 46 قبل الميلاد وتحولت سنة 205 للميلاد، إلى بلدية رومانية وذلك إلى حدود سنة 439 للميلاد تاريخ سيطرة الوندال عليها بعد أن أزاحوا الرومان من شمال أفريقيا واتخذوا من مدينة قرطاج عاصمة لدولتهم قبل أن يطيح بهم بدورهم البيزنطيون سنة 533 للميلاد. وحين قدم الفتح الإسلامي إلى شمال أفريقيا ومعه الهجرات العربية لإعمار المدن القديمة والحديثة، لم يتم استيطان دُقة ويبدو أنها تحولت منذ ذلك التاريخ إلى آثار بعد أن نفر منها القادمون الجدد وصنفوها في خانة «مساكن الذين ظلموا أنفسهم».
لكن بالمقابل بقيت تبرسق وتستور من ولاية باجة المحاذيتان لدُقة عامرتين بالسكان وصولا إلى عصر الهجرات الأندلسية إلى شمال أفريقيا، حيث استوطنها من تركوا ديارهم الأندلسية خشية على أنفسهم وعلى عائلاتهم من جحيم محاكم التفتيش لملكي قشتالة والأراغون إيزابيلا وفرديناند. وبقيت دقة مدينة أثرية متكاملة وقائمة بذاتها وراسخة في أرضها ولم تفلح السنين في محوها من الوجود وفي مسح معالم حضارتها وتطورها في كافة المجالات سواء خلال العصر القرطاجي أو النوميدي أو الروماني أو الوندالي أو البيزنطي.

ذوق فني ومعماري

تمتد مدينة دُقة الأثرية على مساحة 70 هكتارا، وتتميز بكثرة معالمها التي بقيت صامدة إلى اليوم، ذلك أن إدراجها ضمن لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو سنة 1997 سببه أنها أفضل مدينة تاريخية محفوظة في شمال أفريقيا. وتعود هذه المعالم إلى حقب مختلفة، فمنها ما بني في العصر القرطاجي، ومنها ما شيده النوميديون باعتبارها مهد مملكتهم وعاصمتهم الأصلية والأولى، ومنها ما قام الرومان بإضافته وورثه الوندال والبيزنطيون الذين أضافوا إليها بدورهم وطوروا في معمارها.
ولعل أهم معالم دُوقة هو صرحها الثقافي، أي مسرحها المهيب والذي لا يقل هيبة عن مسرح قرطاج الأثري والذي تم تشييده بين سنتي 166 و169 للميلاد ويتميز بطاقة استيعابه الهامة وهو ما يؤكد ولع أغلب سكان المدينة بالأنشطة الثقافية. كما يتميز المسرح الأثري بدُقة بسعة ركحه وبإطلالته على مناظر طبيعية جميلة متمثلة بسهول ممتدة على مرمى البصر وسماء فسيحة تمنح نجومها وكذا قمرها ليلا أثناء العروض مشهدا أسطوريا مهيبا جعل من دقة لؤلؤة المدن التاريخية التونسية القديمة بامتياز.
ومن معالم دقة أيضا الحمامات الرومانية التي لم تكن مجرد أماكن للاستحمام بل نواد فيها أنشطة عديدة مثل الرياضة والمطالعة وأيضا هي مكان لعقد الصفقات التجارية. كما يوجد سوق بجانب الفوروم مورست فيه مختلف الأنشطة التجارية في مدينة مزدهرة اقتصاديا ومنفحة على محيطها وغير بعيدة عن قرطاج المنفتحة على بحار ومحيطات العالم بفعل أسطولها البحري الاستثنائي في ذلك العصر.
ومن معالم المدينة أيضا لوحات الفسيفساء أو الموزاييك الموجودة في البيوت، وهي لوحات أرضية تتضمن أشكالا هندسية جميلة وحائطية تصور الحياة اليومية لسكان دُقة في أدق تفاصيلها بالإضافة إلى مشاهد دينية وأسطورية، وتعتبر جميعها وثائق تاريخية للباحثين حول معالم الحضارة في هذه المدينة ومعتقدات أهلها. وقد تم نقل عدد من هذه اللوحات إلى المتحف الوطني بباردو أشهر المتاحف التونسية والعالمية الذي يتضمن كنوزا ونفائس لا تقدر بثمن من دقة ومن قرطاج ومن غيرها من المدن التاريخية التونسية جعلت هذا المتحف يحوز على شهرته العالمية.

تعددية سياسية ودينية

ومن معالم مدينة دُقة أيضا الساحة العمومية، وتسمى الفوروم وكانت تعقد فيها الاجتماعات العامّة لتكون على مرأى ومسمع من جميع سكان المدينة وبحضورهم. فالمدينة عرفت الديمقراطية القرطاجية خلال فترة ما من تاريخها وكانت فيها مؤسسات منتخبة تم القضاء عليها مع تأسيس مملكة نوميديا فيها، وتحول الحكم مع الأسرة النوميدية إلى ملكية وراثية فردية تم فيها جمع جميع السلطات بيد شخص واحد. ومن المؤكد أن انتخاب المؤسسات المحلية وممارسة الشأن العام خلال فترة النفوذ القرطاجي والقرنين الأخيرين من الحقبة الرومانية كان يتم في الفوروم أو الساحة العامة كفضاء بإمكانه أن يجمع أغلب سكان المدينة.
ومن المعالم الهامة أيضا معبد الكابيتول وهو معبد روماني لعبادة آلهة الرومان من الثالوث المقدس لمرحلة ما قبل تبني الإمبراطورية الرومانية للديانة المسيحية، وهذه الآلهة هي جوبيتير كبير الآلهة وجينو زوجته وكبيرة الآلهة بدورها وأكثرها نفوذا ومينارفا آلهة العقل والحكمة. كما يوجد بالمدينة معبد للإله الروماني ماركور إله التجارة والمكاسب المالية، وقد شُيد هذا المعبد حسب أغلب المصادر التاريخية في نهاية القرن الثاني وأكد تواجده أهمية الاقتصاد بالنسبة لسكان هذه المدينة خلال الحقبة الرومانية، وهي أهمية موروثة عن القرطاجيين الذين برعوا في التجارية البحرية وأسسوا لها أعرافا أصبحت قوانين في عصرنا الحالي وتدرس في كليات الحقوق.
ومن المعالم أيضا معبد الإله بعل حمون أو بعل آمون أو أشمون، وهو كبير آلهة القرطاجيين الذي حظي أيضا بقداسة النوميديين الذين تحدثوا لغة قرطاج البونيقية أو البونية واستعملوا عملاتها وكتبوا بحروفها. وتوجد أيضا آثار قرطاجية أخرى ونوميدية على غرار اللوحات التذكارية القرطاجية والقبور التي تخص القرطاجيين والنوميديين ومنها ضريح دُقة الذي يرجح على أنه للملك النوميدي ماسينيسا الذي ولد في دُقة ودفن فيها وفق أهم المراجع التاريخية ذات المصداقية.

مدينة استثنائية

إن ما تجدر الإشارة إليه أن كل ما في دُقة، هي معالم أثرية هامة، بما في ذلك أبوابها وأقواس نصرها وتحصيناتها القرطاجية والنوميدية والرومانية والوندالية والبيزنطية، وكذلك أعمدتها وقصور ومنازل سكانها الفخمة والعادية التي تدل آثارها على ذوق فني استثنائي أمكن تخيله بالاعتماد على ما بقي منها سليما من جدران وأرضيات وتخطيط هندسي. كما أن نقوشها التي تقدر بألفي نقشة وتعود إلى مختلف الحضارات، هي معالم هامة، وكذا طرقاتها وطريقة ترصيف حجارتها والطبقات التي تضمنتها والمواد المستعملة في تشييدها. فهذه المسالك هي مرجع في هندسة الطرقات باعتبارها صمدت بوجه الزمن وحافظت على صلابتها خلافا لطرقات شيدت حديثا طالها التخريب بعد مرور سنوات قليلة.
وبالتالي ليس من باب الصدفة أن يتم إدراج دُقة ضمن لائحة التراث العالمي الإنساني لمنظمة اليونسكو باعتبارها أفضل مدينة تاريخية محفوظة في شمال أفريقيا، وتتحول إلى مزار سياحي عالمي لسياح الفئة الراقية من المثقفين والباحثين والراغبين في الاستفادة من تجارب مختلف الحضارات. فالمدينة قادرة وحدها أن تروي تاريخ تونس القديم لحقبة ما قبل الإسلام بما في ذلك الحضارة القبصية المنسوبة إلى مدينة قفصة أو قبصة والتي تعتبر مهد نشأة الحضارة التونسية واستفادت منها جميع الحضارات التي عرفتها الخضراء لاحقا.
ورغم أن دُقة غير مأهولة بالسكان في الوقت الحاضر وتوقف تطورها العمراني مع الفتح الإسلامي إلا أن لديها مهرجانا فنيا دوليا يحمل إسمها يقام بمسرحها الأثري سنويا خلال فصل الصيف ويأتيه الزوار من أهالي المناطق القريبة ومن مختلف أنحاء البلاد ومن الخارج بالنظر إلى أهمية عروضه الوطنية والعربية والعالمية، وبالنظر أيضا إلى جمالية المسرح الأثري بدُقة وجمال المدينة ككل، وجمال الطبيعة المحيطة بها والفضاء المفتوح على السماوات الشاسعة والممتدة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية