شهدت الثقافة العربية نهضة ترجمية كبرى، متنوعة ومختلفة، منذ بدء نهضة الترجمة في خمسينيات القرن المنصرم، وحتى يومنا هذا.
في البدء انطلقت من مصر نهضة ترجمية، نتيجة توسع آفاقها العلمية والفكرية والأدبية، إبان العهد الملكي، وصعود طبقة مثقفة اهتمت بآداب الآخر، ورغبت من خلال الاطلاع على هذه الآداب والثقافات والفنون، أن تترجم أفكار وفلسفة الآخر الذي يحمل تراثاً حضارياً، وثقافياً متحرراً، جديداً وتنويريّاً في عالم الفكر، والفلسفة، والبحث الأدبي، والعلمي، والثقافي، والاجتماعي والفني.
ازدهرت الترجمة في مصر، ثم انتقلت عبر التناغم والتماهي والانهمام العربي بهذا الأمر، الى بيروت ودمشق والعراق، لتواكب مسيرة الترجمة في مصر، مجددة المسيرة الترجمية، بطرائق حديثة وجديدة، ومواكبة للغة العصر والحداثة في العالم، حتى انتشرت وعلى نحو واسع في بيروت، ثم دمشق في فترة الستينيّات، لتلحقها بغداد، مواصلة المسيرة الترجمية العربية، ثمّ المغرب العربي، كلٌّ حسب مقدرته الفنية واللغوية، وحسب مقارباته الصوتية واللفظية والفنية.
ذهب مفكرون، ومثقفون، ودارسون لعلوم الغرب، وآدابها الى الخارج، وحين عادوا لبلادهم طرحوا رؤاهم الترجمية، وعبر لغات متنوّعة وعديدة، فرنسية، إنكليزية، ألمانية، روسية وحتى يابانية وصينية وإسكندنافية.
في بيروت الستينيّات، قرأنا ترجمات رائعة، من خلال دور نشر متخصصة في نشر الآداب الأجنبية والعالمية، إلى جانب حركات ترجمية فردية، تقودها مجموعات إبداعية، دافعها الابتكار والإبداع، والكشف والتغيير في نسق ثقافتنا العربية، فظهرت ترجمات لمجلات «شعر» و»أدب» و»حوار» رغم ما شاب هذه المجلات من أفكار سياسية غربيّة بحتة، ودوافع غير أدبيّة، ليس مجالها هذا المكان، كما حدث مع مجلة «شعر» ليوسف الخال و»أدب» و»حوار» للشاعر توفيق صايغ، وكلاهما كان ينتمي إلى الحزب «القومي الاجتماعي السوري» في تلك الفترة. لكن رغم ما صاحب هذه المشاريع الثقافية من جدل، ومفاهيم ورؤى مختلفة، طالها النقد الصريح، وأحياناً اللاذع، فقد برزت هذه المشاريع في ظروف صعبة لواقعنا العربي، تحديداً بعد الهزيمة، فإنّ تلك المشاريع النهضوية الترجمية كان لها كبير الأثر في نقل إبداع البلدان الغربية المختلفة، مثل بريطانيا وأمريكا وحتى فرنسا وألمانيا إلى شبيبة عالمنا العربي، الذي كان متلهّفاً لرؤية وتلمّس أدب الغرب، بكل تحوّلاته الجوهرية، والفنية، والتعبيرية، فظهرت ترجمات ليوسف الخال، وأنسي الحاج، وخالدة سعيد، وتوفيق صايغ، والسيّاب، وأدونيس، وعصام محفوظ، وسلمى الخضراء الجيّوسي، وفؤاد رفقة، وشوقي أبي شقرا، وجبرا إبراهيم جبرا، وسركون بولص.
في دمشق طُرحتْ ترجمات لصدقي إسماعيل، وسامي الجندي، وسامي الدروبي، وسليمان العيسى وملك أبيض، وفي مصر لممنا بترجمات لعبد الغفّار مكاوي، لويس عوض، عبد الرحمن بدوي، صلاح عبد الصبور، نعيم عطية وغيرهم من الأسماء اللامعة في أفق الترجمة من لغات العالم إلى لغتنا العربية.
في بيروت، ثمة دار نشيطة في طبع الممنوع، والمحتجب، لغرض جمع المال، والتسويق العشوائي لعالم لا يعرف اللغات، ويجهل أسرارها، أغرقت السوق في فترة معينة، بترجمات تخلو من أي حسّ فني وجمالي، ناهيك عن دقّة الترجمة، وكثرة الأخطاء اللغوية والنحوية، التي صاحبت تلك الترجمات الشائهة، لاسيّما الشعرية منها.
حين اطلاعنا على غالبية أعمال هؤلاء المبدعين، كان هاجس التمكّن من اللغة المنقولة هو الفيصل الرئيس، والعامل الأبرز لكل ترجمة، يصحبه عاملان مهمّان آخران، هما الحس اللغوي، المصحوب بالطراوة، والإلمام التام بالعربية، نحواً وصرفاً، وبلاغة، لكي يتمكن المترجم من تأدية رسالته الفنيّة، على نحو أنجع، يجعل من عطائه المترجَم نصّاً واضحاً، سلساً، طريّاً، يعتريه الوضوح، لا لبس في معماره، أو خلل يعتري بنية النص المترجَم، بل نجد غالباً في أعمالهم المنقولة، بناءً ترجمياً متماسكاً، مشدوداً، نقيّاً، خالياً من التعقيد، والإبهام، وغموض الجملة، أو العبارة، وليس ثمة ركاكة وفجوات فنية تتخلله، ولا ضبابية تكتنف النص، لكي يُضحي مبهماً، في باطنه عُسْر، وعدم وضوح للرؤيا اللغوية، وما جاورها من مغاليق، لا يستطيع القارئ فك طلاسمها، إلا فيما ندر، وذلك يأتي غالباً من تعاضل النص ذاته في لغته، كأن تكون لشاعر مهمته اللعب على اللغة، والمفردات، وقلب المفاهيم، ولاسيّما في الشعر الرمزي، وبعض الشعر السيريالي، والشكلاني، لكن المُحقق والمترجم الشامل هنا يعي مهمة عمله، فيقدّم أحياناً شروحاً للنص الشعري، أو توضيحات لما سوف يلتبس على القارئ العادي، غير المطلع كثيراً على الآداب العالمية والأجنبية، ليساعده في فك الشيفرات والرموز والدوال، محاولاً من خلال توضيحه هذا، مساعدة القارئ على التحدّي لقراءة النص، وسبر عوالمه الملغزة، الغامضة، وصولاً لاستيعاب هذا العالم الجميل، الشائك والمتوشّج.
أما الآن، فنحن نجد أنفسنا ومنذ العقود الثلاثة الأخيرة، أمام كمّ هائل من الترجمة، في الشعر والرواية تحديداً، كمّ يفتقر إلى الكيف، إلى التميّز واللمعان والصفاء الترجمي. في الشعر ظهرت ترجمات كثيرة، جلّها ينقصها البهاء اللغوي، والوضوح البلوري، والنقاء اللفظي، الذي لا بدّ منه في كل نص شعري مترجم، ترجمات ينقصها الميزان الراجح، أو الحس الشعري والمعادل الجمالي الذي يستطيع أن يتماهى مع اللغة الثانية، أو المقابِلة، لكي يغدو قرينها وشبيهها، من خلال التحام، غير منفصل ومشقوق وموارب، بل بكلّ متكامل، هاجسه الواحدية، والاندغام، والانتساج الممتد مثل خيوط شبكية. لكن ما نراه في بيروت الآن من ترجمات، أو في مصر ودمشق وبغداد والخليج العربي، وحتى بلدان المغرب العربي، هو طوفان ترجمي تعوزه النقاوة اللغوية، واللمسة الفنية والصوتية، وروحية التلاشي في الغَيْرية، أي أنْ تصير هو، حتى تلمّ بالقصيدة الأجنبية، لنراها وكأنها مصوغة بقالب وقلب عربي، وأن النص القصصي كأنه جزء من عالمك وروحك، والرواية كأنها تتحدّث عن عالمك، ومجتمعك، وتجعلك لا تنفك تتذكرها كلما مرّت عليك فكرة، أو خطر في بالك شيء مشابه لعالم الرواية تلك، وأجوائها المتقنة والمحكمة، ذات الصياغات المُنوَّرة لغوياً.
في بيروت، ثمة دار نشيطة في طبع الممنوع، والمحتجب، لغرض جمع المال، والتسويق العشوائي لعالم لا يعرف اللغات، ويجهل أسرارها، أغرقت السوق في فترة معينة، بترجمات تخلو من أي حسّ فني وجمالي، ناهيك عن دقّة الترجمة، وكثرة الأخطاء اللغوية والنحوية، التي صاحبت تلك الترجمات الشائهة، لاسيّما الشعرية منها. في الخليج العربي، كانت المسألة أعمق وأكثر تعقيداً، حيث نشرت مؤسسات ذات طابع رسمي، ترجمات لأحدهم، يتقن الفرنسية على نحو محكم، وعربيته أيضاً جيّدة، وقد ترجم الأعمال الشعرية لشاعر فرنسي، شهرته تطبق الآفاق، وآخر ألمانياً لا تقل شهرته عن الأول، كلتا الترجمتين كانتا تفتقران إلى الحس المرهف، وإلى اللغة الليّنة والنديّة، رغم أن العربية لغة مطواعة، واسعة، ومروحتها اللفظية عبر نبرتها الموسيقية هائلة، باستطاعتها استيعاب ما استعصى من الرؤى والتشاكيل البنيوية في البعد الترجمي، ومن هنا جاءت نصوص هذا المترجم باردة، لا حرارة فيها، وأيضاً تندرج ضمن سياق ما يعرف بالترجمة «الخشبيّة» تلك التي لا روح ولا قلب لها، ذلك أنها مجرد ترجمة حرفية، جاءت مطابقة للنص، لكنها تخلو من الشاعرية، ورنين اللغة الأخّاذة، ذات الصياغات الفاتنة، السائلة والجذابة، تلك التي تحمل البريق واللمعان ووهج اللغة الحانية، المتمتّعة بالجاذبية.
قدم لنا الأستاذ شفيق بعض الآراء حول الترجمة كما يراها في بعض البلدان. لكن أستسمحه لطرح بعض الأسئلة: ما هي الأعمال التي يقصدها بهذا النقد ؟ ولم لم يقدم بعض الأمثلة؟ ما هو نصيب الترجمة باعتبارها مهنة؟
مع الشكر.
مقال دقيق في أحكامه، ولكنه يفتقر إلى ضرب الأمثلة وذكر الأسماء، وهو ما نحتاج إليه كي نستوعب ما يقال، ونلم بماوراء الظاهرة