باريس ـ من الطيب ولد العروسي: كان ولا زال الجزائريون ينتظرون أجوبة على أسئلة ظلت تراودهم منذ زمن، من بينها لماذا قام بومدين بالانقلاب على الرئيس الأول المرحوم أحمد بن بلة؟.
ألأنه لا يملك استراتيجية للخروج بالبلاد إلى بر الآمان، أم كان التخلص منه وفق أجندة غربية، خاصة أن هذا الانقلاب تزامن مع انقلابات أخرى عرفتها القارة السمراء وقضت على زعماء ووطنيين مهمين؟ وما هي حقائق أكتوبر 1988؟ ومن قتل عبان رمضان وقضى على الكثير من زعماء ثورة التحرير الجزائرية، محمد خيذر، كريم بلقاسم، شعباني، قائد أحمد، والقائمة تطول؟ لا شك أن صدور كتاب ‘مذكرات الشاذلي بن جديد’ عن منشورات ‘القصبة’ الجزء الأول، التي تروي 50 سنة من حياته (1929-1979) كان ينتظر منها أن تجيب على بعض من هذه الأسئلة، خاصة أنه أكّد أن هذه المذكرات ‘تتناول جذوري وطفولتي وانتمائي إلى العمل المسلح وكفاحي في القاعدة الشرقية وقيادة أركان جيش التحرير الوطني والمهمات التي قمت بها، كقائد عسكري، بعد استرجاع السيادة الوطنية’ (ص. 19 من الكتاب).
كنا نترقب من الرجل أن يتطرق لتلك المواضيع بكثير من الشجاعة، خاصة أنه بدأ مذكراته قائلا: ‘لقد لاحظت أن اغلب هذه الأعمال (يعني المذكرات التي تم تأليفها قبله من قبل بعض الشخصيات الجزائرية) تطغى عليها النزعة النرجسية التي تبرز شخصية مؤلفها على حساب الحقيقة، والتواضع الذي يجب أن يميز كل شهادة تاريخية’. من هذا التصريح وهذا الموقف الذي أعلنه، فالقارئ وهو يتتبع فصول الأحداث التي تناولها المؤلف في كتابه الذي يحتوي على تمهيد و12 فصلا، يرى أنه تطرق إلى طفولته واشتغاله بالتجارة وولعه بالصيد ثم انتقاله إلى عنابة وقسنطينة للتحصيل العلمي، وانتسابه إلى الثورة سنة 1955 جنديا بسيطا ثم تدرّج في عدة رتب إلى أن أصبح شخصية معتبرة أهلته لأن يكون أحد المقربين من بومدين وجماعة وجدة، كما أصبح مع الاستقلال عضوا في منطقة الشمال، بعد أن كان رئيس منطقة سنة 1956 ورئيس ناحية (1958-1959).
يؤكد بن جديد أن الشائعات التي ترددت حول انتسابه إلى الجيش الفرنسي كذب وليس لها أي علاقة بالواقع، وهذه الفكرة لم تراوده بتاتا، وهي شائعة روّج لها بعض الناس الذين كانوا يريدون الإساءة إليه. فقد نشأ في عائلة ثورية تقدس الواجبات الوطنية وتألمت من الاستعمار الذي كان يعاملهم بقسوة، وأنه حينما كان في المدرسة ومع أولاد فرنسيين وفي صف واحد فهو لا يذكر أصدقاء لهم بينه ‘كنا نحس في أعماقنا بالفارق الكبير بين ما تعلمناه في محيطنا العائلي ودراسة القرآن وبين ما تلقنه لنا المدارس الفرنسية’ ( ص.37)
زاد تطلعه إلى النضال مع أحداث 8 ايار/مايو 1945 التي شكلت بالنسبة له ولجيله ‘تحوّلا مهما على أكثر من صعيد، وبدأت أدرك تحت تأثير الوالد أن الأمور لن تسير في الجزائر، في ما هو قادم من أيام، كما في السابق، ووجدت نفسي أنخرط في العمل السياسي بعد أن كنت أعتبر أن السياسة حكرا على الكبار ‘ ( ص.47). هكذا يواصل الشاذلي التطرق إلى تدرجه في الثورة ولقائه بعض صانعيها مثل المجاهد عميروش الذي قدم فيه شهادة شخصية روى فيها ‘ لقد بقيت في ذاكرتي الصورة التي يعرفها الجميع: طويل وضخم وذو نظرة حادة بقشابيته الملونة ورأسه المغطاة بشاش’، مواصلا ‘عميروش كان متمسكا بقوة بمبدأ وحدة الصفوف لدرجة أنه لم يكن يتوقف عن مصالحة الإخوان المتعادين؛ سواء في الولاية الأولى أو في تونس’، كما تحدث عن مؤتمر الصومام وإنشاء القاعدة الشرقية 1956- 1958 ولقائه بالمجاهدين أوعمران، وكريم بلقاسم ولخضر بن طوبال وآخرين. كما اعتبر الصومام انطلاقة حقيقية لصياغة مشروع الثورة المجيدة.
لا شك أن المرحوم الشاذلي أعطى وجهة نظره الشخصية، غير أن الكثير من الأوساط الثقافية والسياسية كانت تنتظر منه نفض الغبار على بعض الأحداث، مثل مقتل المجاهد خميستي أول وزير خارجية جزائري مباشرة بعد الاستقلال، أو شعباني الذي يؤكد في مذكراته أن بن بلة هو الذي أعطى الأوامر بقتله، ثم غضب بعد أن تمت تصفية، فماذا يعني هذا التصريح؟ وهذا التأكيد من الشاذلي يناقض الكثير من الطروحات التاريخية، التي تناولت الأسباب الحقيقية التي أدت بجماعة وجدة للإطاحة بابن بلة، وهو يعلل ذلك بالحكم الفردي الذي انتهجه بن بلة، وبأخذ القرارات بسرعة، والتعامل مع شلة معينة من المقربين منه، خاصة أنه كان ينوي الاستغناء عن بومدين الذي بدأت طموحاته وتدخلاته تثير غضبه وغضب بعض مستشاري الرئيس بن بلة، وكانت هذه التحركات حقيقة موضوعية، لأن معظم المسؤولين الجزائريين الذين كتبوا مذكراتهم أكّدوا على تحضير بومدين وجماعته للانقلاب على بن بلة، وتم ذلك بالفعل حينما أقنعوا مجموعة من العقداء، على رأسهم الطاهر الزبيري، حيث تم توظيفه في الإطاحة بابن بلة، ولما عرف أن الانقلاب لم يأت بجديد، وأنه كرّس وبشكل خطير الجانب الفردي في الحكم، ونفي الكثير من المجاهدين والمناضلين، وأبعد معظم المعارضين الذين كانوا يتجرأون على انتقاده، ولذا ومن هذا المنظور لم يأت الجماعة ببديل، بل كان الرئيس يحتل عدة حقائب وزارية وتعود إليه كل القرارات. مما دفع الطاهر الزبيري عام 1967 الى تنظيم انقلاب عليه يقول الشاذلي، الذي شاور فيه مجموعة من المسؤولين العسكريين كما يؤكّد الشاذلي قائلا: ”كنا خمسة: عبد الرحمن بن سالم، العقيد عباس (قائد الأكاديمية العسكرية لشرشال)، سعيد عبيد، يحياوي (قائد الناحية العسكرية الثالثة ـ بشار)، وأنا (قائد الناحية العسكرية الثانية ـ وهران’، ثم واصل مؤكدا، ”لم أدرك في تلك اللحظة أن هناك مؤامرة تحاك في الخفاء وأنني طرف فيها من حيث لا أعلم. انتقلنا إلى الصالون لتناول القهوة ولاحظت أن كل الجماعة صامتة ولم يفاتحني أحد بما كان يدور في أذهانهم، لاحظت أنهم غمزوا السعيد عبيد لأنهم كانوا يعرفون الصداقة المتينة التي تربطني به وأرادوا استغلال ذلك، ثم طلبوا منه أن يكلمني باسمهم. نهض السعيد عبيد وقال بنبرة أحسست فيها نوعا من اللوم والعتاب والاستنجاد في الوقت نفسه’، لكن الطاهر الزبيري يؤكد في جريدة ،الخبر’ الصادرة بتاريخ 24 تشرين الاول/أكتوبر 2012 على أن الشاذلي كان موافقا على الإطاحة ببومدين، ‘ ومع ذلك أشير إلى أن الشاذلي بن جديد زارني في بيتي على غرار الكثير من المسؤولين والضباط الذين ترددوا على بيتي في تلك الفترة، ولكنه لم يقل لي هذا الكلام، بل لم تكن له الجرأة حينها ليقول أمامي مثل هذا الكلام.
الشاذلي كان متضامنا معي ولكنه كان يهاب بومدين، كان متحفظا ويراقب الوضع من بعيد، فقد كان الناس يحترمونه لهدوئه وكثرة صمته، وكان يجتنب دائما الدخول في جدالات أو صراعات مهما كانت’، مما يظهر أن المرحوم الشاذلي كان يهاب بومدين الذي بقي وفيا له .
أما عن موت أحمد مدغري (وزير الداخلية)، فيؤكد الشاذلي أنه انتحر لكون أنه كان يعاني مشاكل نفسية كثيرة، فهذه الشهادة تناقض مجموعة من آراء المطلعين الذين يرون أن الكل يتفق على أن الرجل تمت تصفيته لأنه لم يكن متفقا مع قرارات وتوجهات القيادة في ذلك الوقت، وأنه بات ينتقد مسيرتها وغير راض على ما آلت إليه البلد. ونفس المصير لاقاه المناضل المرحوم قائد أحمد الذي تمت تصفيته في المغرب بعد أن أعلن تمرّده على حكم الرئيس بومدين، والذي مرّ الشاذلي على موته من دون التطرق إلى الأسباب الجوهرية التي أدت إلى تصفية أحد أعمدة جماعة وجدة.
لم يقدم الشاذلي بن جديد تقييما حقيقيا لمسار الدولة الجزائرية بعد الانقلاب المشؤوم، فقد انتمى إلى فريق وجدة الذي كان يعتبر أحد ركائزه، وأنه كان محلّ ثقة من رجاله، لذا نراه يمدح هذه الفترة من دون أي نقد ذاتي. وهذا ما نراه حينما تطرّق إلى ظروف إنشاء هيئة الأركان العامة للجيش، حيث اعتبر الشاذلي أن العقيد هواري بومدين كان بمثابة القائد الذي تمكن من تحسين أوضاع جيش الحدود، بسبب الفوضى التي برزت بمبرّر عدم قدرة محمدي السعيد على التسيير، الذي يرى أنه كان معروفا عنه النرفزة وعدم التمهل والتريث في معاملاته مع الجنود. كما يؤكد الشاذلي أنه التقى ببومدين في النصف الأول من سنة 1960، فلاحظ أن هناك فرقا كبيرا بينه وبين محمدي السعيد، فاقتنع أنه رجل مخلص ووطني حتى النخاع، وصاحب نظرة عميقة: ”واتفقنا أنا وعبد الرحمن بن سالم بعد العودة أن نمنح له (بومدين) فرصة تطبيق خطته للخروج من الأزمة”. وبحسب الشاذلي، فإن بومدين نجح أين فشل محمدي السعيد، فتمكن من القضاء على النعرات الانقسامية التي كانت سائدة في صفوف جيش الحدود، إذ جعل حدا لتلك المجموعة التي كانت ترى أنها الوحيدة التي تمثل أسياد الحرب التي نتجت عنها تمردات خطيرة..
أما علاقة بومدين بالضباط الفارين من الجيش الفرنسي، التي كانت ولا زالت محل انتقادات حتى اليوم، فإن الشاذلي قال ما يلي ”فمن التهم الموجهة إلى بومدين أنه أعاد إدماج الفارين من الجيش الفرنسي، وعيّنهم في مناصب حساسة، ودعم ارتقاءهم وترقياتهم في مناصب إستراتيجية أثناء الثورة وبعدها. وهذه التهمة بقدر ما تنطوي على حقيقة بقدر ما تخفي مغالطة، ذلك أن بومدين حين استلم قيادة الأركان وجد هؤلاء الضباط يحتلون مناصب مهمة في وزارة القوات المسلحة وعلى رأس فيالق وفي مدارس التكوين”. ثم يواصل ‘وورث بومدين عن كريم بلقاسم، (حسب الشاذلي) وضعية متأزمة، من مظاهرها تفكك الوحدات القتالية وانقطاع الثقة بين القيادة والجنود وغياب إستراتيجية لاستعادة المبادرة في قيادة الحرب’، وهنا تكمن عبقرية بومدين في كونه وجد حلا وسطا بين تصور الرائد إيدير في رؤيته للحرب الحديثة) وتصور المجاهدين (لحرب العصابات) فاختار حل المزاوجة بينهما’، رغم أن الكثير من المناضلين كانوا قد حذّروه من التقرب من هؤلاء، لأنهم متّهمون بالعمالة وبكرههم الشديد للمجاهدين، لكنه لم يسمع النصائح وقربهم منه، بل وقلّدهم مناصب كبيرة بحكم أنهم يملكون ‘التقنية’ ويعرفون كيف ‘يسيرون’ الإدارة ودواليب الدولة.
الجدير بالذكر أن مذكرات الشاذلي تناول فيها الأحداث التي أثرت فيه منذ ولادته إلى سنة 1979، حيث تطرق فيها أيضا إلى تعيينه على رأس الناحية العسكرية الثانية بين 1964 و1979، وهو العام الذي شهد موت المرحوم الرئيس بومدين، الذي عندما اشتد عليه المرض نقل إلى موسكو في رحلة علاج كانت الأخيرة، إذ يذكر بعض المقربين بأنه قرر ــ أي الراحل هواري بومدين ــ تعيين صديقه الحميم ومستودع أسراره العقيد الشاذلي بن جديد، قائدا لجميع أسلاك الأمن الجزائرية من مخابرات وجيش ودرك وشرطة، من منطلق الثقة المطلقة التي يضعها العقيد هواري في بن جديد، وكان مدير المخابرات في عهد هواري بومدين، قاصدي مرباح هو من تلقى الأوامر مباشرة من الرئيس هواري بومدين، ثم تم اختياره ليكون مرشحا لمنصب رئيس الجمهورية إلى غاية ما بعد انتخابات سنة 1992، التي يتم التعرّض إليها في الجزء الثاني من مذكراته.
احتوى الجزء الأول من المذكرات على مجموعة من الأحداث الأخرى من بينها العلاقة مع المغرب، حيث تكلم عن ضغوط الحسن الثاني على الحكومة المؤقتة لمنعها من إجراء استفتاء حول تقرير المصير في منطقة تندوف التي كان يدّعي مغربيتها،
‘وقام بنشر قواته على طول الحدود، بعد أن رفض التخلي عن أطماعه الاستعمارية’، غير أن الرئيس الشاذلي عمل على إصلاح العلاقات مع مجموعة من الدول العربية ومن ضمنها المغرب، كما عمل على فتح صفحة علاقات جديدة مع الغرب، إذ بدأ بزيارة إلى بلجيكا وبعدها تنوعت زياراته إلى الغرب، كما تنوعت تصريحاته الإعلامية على صفحات كبريات الجرائد الغربية والأمريكية على وجه الخصوص، مبينا بذلك التوجه الجزائري الجديد الذي اعتمد على انفتاح اقتصادي واجتماعي بارز ‘رافقه تحسن نسبي في ملف الحريات’، حيث أصدر قرارا بإلغاء القيود التي كانت مفروضة على سفر المواطنين الجزائريين إلى الخارج، واصدر قرارا برفع منحة السياحة التي كانت تعطى للرعايا الجزائريين عند سفرهم إلى الخارج. كما أعلن عن السماح بتأسيس أحزاب سياسية بعد ثورة أكتوبر 1988. وتمت تنحية الرئيس الشاذلي بعد انتخابات 1992، التي كما يقول بعض الملاحظين أنه سيتطرق إليها وإلى أمور حساسة في الجزء الثاني الذي ينتظر صدوره منذ أشهر.