■ «يُعتبر إدواردز من أبرز كتّاب السّيرة الذاتية في عالم أمريكا اللاتينية، وقد أبان عن ذلك بجدارة في روايته «شخص غير مرغوب فيه»، الذي يحكي فيها تجاربَه الشخصية خلال وجوده في كوبا كممثل دبلوماسي لبلده، كما يظهر ذلك في كتابه «الدوائر الأرجوانية»، ويعتبر كتابه الصّادر مؤخراً في مدريد «عبيد الشّعار» من هذه المذكرات، وهو كتاب يحكي لنا فيه عن أيام تكوينه في تشيلي، ويستعرض العديد من الأسماء الأدبية اللاّمعة مثل بابلو نيرودا، ونيكانور بارّا، وخوسّيه دونوسُو، ووليم فولكنر وسواهم، فضلاً عن انتقاده للمظاهر والمذاهب السياسية التي كانت سائدة في شرخ شبابه، إنه يقدّم لنا عرضاً رصيناً عن حياته التي وهبها للأدب وللدبلوماسية». (برغاس يوسا).
بعد صدور الكتاب الأوّل من مذكرات الكاتب التشيلي خورخي أدواردز الذي كان يحمل عنوان «شخص غير مرغوب فيه» الصّادر عام 1973، وبعد صدور كتابه الثاني «الدوائر الأرجوانيّة» عام 2012 صدر كتابه الجديد في 2018 تحت عنوان «عبيد الشّعار». نشر أدواردز هذه المذكرات (التي يمتزج فيها الخيال بالواقع) بعد أن جعلت كوبا منه بالفعل شخصاً غيرَ مرغوبٍ فيه في هذه الجزيرة، بل صيّره هذا الكتاب شخصاً ممقوتا من طرف حُكّام كوبا، وفي طليعتهم فيديل كاسترو، وكان صديق أدواردز الشاعر بابلو نيرودا قد نصحه بعدم نشر هذا الكتاب، وأنْ يحفظه لوقت آخر، يقول أدواردز «لو كان نيرودا ما زال على قيد الحياة لطلب منه الشيء نفسه». كان نيرودا قد صبّ جامّ غضبه على أدواردز بسبب نشره لهذا الكتاب الذي يكيل فيه انتقادات لاذعة للنظام الشيوعي في جزيرة كوبَا، التي كان يحلو له نعتها بالمنكوبَة! وكان صديقه الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثر قد صرّح هو الآخر لأحد الصّحافيين، بعد صدور كتاب أدواردز، بأنه يفضّل ألاّ يراه، وأن لا يلتقي به بعد اليوم. من بين العديد من المواضيع التي يعالجها هذا الكتاب نجد قصة أحد الشعراء الكوبييّن، وهو هيبيرتو بادييّا الذي كان النظام الكوبي قد سجنه، ما سبّب في احتجاجات واسعة النطاق من طرف مختلف المثقفين في العديد من البلدان الأمريكية والأوروبية على حدٍّ سواء، حدث هذا عندما كان خورخي أدواردز قائماً بأعمال سفارة بلاده في هذه الجزيرة على عهد حكومة أليندي.
أسرى الأجسام والعقول
ولد خورخي أدواردز في تشيلي عام 1931، واجه العقوبات التي كانت قد فرضتها عليه الثورة الكوبية، فكتب عن ذلك الكثير وهذا ما جعله – حسب النقاد – يحصل على جائرة سيرفانتيس في الآداب الإسبانية عام 1999، وعن هذه الذكريات أشار قائلاً: «إن قراءاته الأولى كانت تُفرَض عليه من طرف رجال الدّين اليسوعيين الذين كانوا يقدّمون له كلَّ ما هو رديء، ويحظرون عليه الكتب الأخرى من اختياره… كنا نعيش أسرى في أجسامنا وعقولنا، إذ من بين الكتّاب الذين كان محظوراً علينا قراءتهم كذلك في ذلك الوقت الكوبي غييّرمُو كابريرا إنفانتي، والبيرواني ماريو برغاس يوسا، وكنا شغوفين كذلك ببابلو نيرودا الذي كان ينصحني ويقول لي: لا تكتب ذلك الكتاب عن كوبا، وأنا سأخبرك متى يمكنك إصداره، وسوف أعلّم بقلم الرّصاص الأحمر الفقرات التي عليك حذفها منه»، كان «شعاراً» إلى جانب سائر أفراد التنظيم. إلاّ أنني لم أسلمه نصَّ الكتاب لأنني كنت أعلم أنه لن يتركني أنشرَه، حيث قال لي بالحرف الواحد: إن هذا الكتاب خطير جدّاً وعليه أن ينتظر. وبعد صدور الكتاب في مدينة برشلونة قذفوني بالبيض، والطماطم العفنة، وهاجموني من جميع النواحي، نيرودا كان قد مات ولكن أرملته ماتيلدي أورّوتيا كان لها رأي آخر في ذلك، حيث قالت لي إن الكاتب له كلّ الحقّ في نشر كتبه».
وعن لقاء أدواردز بخوليو كورتاثار يقول: كان كورتاثار قد قال لأحد الصحافييّن إنه كانت تربطه به صداقة متينة إلاّ أنه منذ أن نشر كتابه «شخص غير مرغوب فيه» فضّل أن لا يراه.
باث ونيرودا وكورتاثار
ويحكي لنا خورخي أدواردز أن بابلو نيرودا كان خصماً عنيداً لأوكتافيو باث، وعندما علم بصدور كتابه قال باث لبارغاس يوسا: إنه لا يعرف أحداً غير مرغوب فيه، يمكن أن يكتب كتاباً مثل الذي وضعه أدواردز، ونشر ذلك في مجلته الأدبية «العودة»، عندئذٍ تأكد لي تغيير موقف نيرودا من باث، إذ شاءت الصّدف أن يكون نيرودا في لندن مع زوجته ماتيلدي وهي التي حكت لنا الحكاية قالت: «فجأة ظهر هناك باث في القاعة التي كان بابلو يلقي أشعارَه فيها ويجيب عن أسئلة الحاضرين، وعندما رأى باث قام من مكانه وتقدم إليه ليعانقه على الطريقة التشيلية، التي لا تخلو من قُبلات حارّة ومبالغات، وبعد هذا اللقاء أخبرني باث في الهاتف أنه قرأ كلّ أشعار نيرودا، فاكتشف أنه أحسن بكثير من جميع شعراء الجيل الإسباني الشهير 1927، وتبيّن له في ما بعد أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه هو ارتماؤه في أحضان السياسة.
وعن لقاء أدواردز بخوليو كورتاثار يقول: كان كورتاثار قد قال لأحد الصحافييّن إنه كانت تربطه به صداقة متينة إلاّ أنه منذ أن نشر كتابه «شخص غير مرغوب فيه» فضّل أن لا يراه. وبعد سنوات التقيتُ في باريس مع أرملته أورُورَا بيرنانديث فقالت له بأنه أكبر مفكر سياسي في أمريكا اللاتينية فقال لها وخوليو؟ فقالت: «خوليو في آخر أيامه كان يجتاز ظروفاً صعبة ويعاني من ضغوطات سيئة». وعن تهجّم نيكانور بارّا عليه، بأنه أضاع وقته مع نيرودا، قال: فعلاً إنه كان يقول لي ذلك دائماً فهو يعرف أنّ نيرودا لم يكن شغوفاً بالكتب، فلو كنتُ صديقاً لبورخيس لعلمتُ أشياءَ كثيرة أكثر عن شوبنهاور ونيتشه، إلاّ أنه كان صديقاً لنيرودا، وقال ذات مرّة لصديقٍ له فيلسوف وهو لويس أوجارثون: «أعتقد أن الفلسفة الحقيقية هي أن يكون لدى كل إنسان في العالم زوجاً من الأحذية وشريحة لحم بقري، فصار يضحك»! وعندما أخبره نيرودا بأنه ستقع له أشياء سيّئة بعد نشره لكتابه «شخص غير مرغوب فيه» قال: الواقع أن الكتاب قرأه أناس كثيرون، وما زال يُقراً حتى اليوم، إلّا أنّ نيرودا كان على صواب فقد تهجّموا عليّ كثيراً، وخضعت كتاباتي بعد ذلك لرقابة مُشددة، وباختصار جعلوا حياتي مستحيلة، فقد كانت تلك الأوقات أزمنة الشّعارات.
معروف عن أدواردز دفاعه المستميت عن الحريّات الفردية والجماعية في الأدب والحياة.
الجنون حكمة
عندما حصل أدواردز على جائزة سيرفانتيس في الآداب عام 1999 قال إنه وجد في سيرفانتيس ما لم يجده لدى أيّ كاتب آخر لا دانتي، ولا رابيلايس، ولا موليير، ولا حتى عند غوته، قال: «لقد ألفيتُ في أعمال سيرفانتيس خاصّة في رائعته «دون كيشوت» شيئاً ربما كان يشاركه فيه شكسبير وحده، إذ شاءت الأقدار أنه في 23 أبريل/نيسان من عام 1616 توفي اثنان من أعظم الكتّاب في عالم الأدب، وهما سيرفانتيس وشكسبير ولهذا يُعتبر هذا اليوم يوماً عظيماً في تاريخ الآداب العالمية».
ففي دون كيشوت كان الرّواة في هذه القصــــّة يتزايدون، وهم يغمزون للقارئ، كانوا يهزأون منه، كانوا في الوقت ذاته يأخذونه من يده بمحبّة ليبدأ معهم رحلة الغوص في عالم الإبداع القصصي، كانت الشخصيات تقفز من بين السّطور، وتختفي وراء الصفحات ثم تتحوّل، وتتحــرّك وتتبدّل، وقد أصـــابها شبه عدوى لاكتشـــاف واستكناه النصوص المُورقة التي كانت تغدو فيها الحماقةُ حكمةً والجنونُ اتّزاناً! وأشار أدواردز أنه لم يكن على علم قط منذ نعومة أظفاره وهو يكتب أبياتاً شعرية بسيطة وفقرات أدبية متعثرة على دفاتر مدرسية أنه سيأتي يوم يحصل فيه على أكبر جائزة في الأدب الإسباني وهي سيرفانتيس.
الأدب والحرية
معروف عن أدواردز دفاعه المستميت عن الحريّات الفردية والجماعية في الأدب والحياة وهو يقول: إن الكتّاب العظام يعملون على جعل العالم أكثرَ اتساعاً باللغة والأدب وسيرفانتيس بروايته «دون كيشوت» فتح عوالم واسعة وفسيحة أمام القراء، وقد أصبحت هذه الرواية بمفردها وكأنّها قطر من الحرية»، وهكذا فإنه بالنسبة لكلٍّ من سيرفانتيس وأدواردز فإن الأدب هو كذلك قطر من الحرية، ومهمة الأديب العمل على زيادة توسيع حدود هذه الحرية، بل والعمل على تحطيم وتدمير، أو على الأقل تقريب جدران زمانه، وهذا ما قام به أدواردز في روايتيْه «حلم التاريخ» و«الضّيف» منذ سنوات عديدة قبل أن يسقط جدار برلين الذي أصبح رمزاً وعَلماً في القرن العشرين لفتح نوافذ مُشرعة يمكن من خلالها رؤية آفاق جديدة لا حدود لها. إنّ أدواردز في كتاباته إنّما يتقمّص دور المحارب الذي لا يهدأ له بال حتى تتساقط، وتتهاوى كلّ الجدران، أوّلها جدار الصّمت، وجدار الرّقابة، وأخيراً جدار الحريّة.
جيل الخمسين
إنّ الكتّاب الذين ينتمون لجيله الذي يُعرف بجيل الخمسين راهنوا على الحرية مُضحّين بكل غالٍ ونفيس، بذواتهم وذويهم وقد واجهوا كلَّ أشكال المخاطر والأهوال والأذى. فقد صرّح أدواردز ذات مرة في هذا القبيل أن ّشخصيات رواياته هي أشباح من لحمٍ ودمٍ فمثل هذه الشخصيات لها أهمية في الواقع أكثر من التاريخ المرويّ أو المحكيّ، وأنّ المناخ الذي تتحرّك فيه هو مناخ يحفل بأسلوب غنائي مرح، يقوم في الغالب على الرمزية والإيحاء، ولا يخلو من السخرية والمزاح بدل الغيظ والحنق، إن حرية التعبير بالنسبة له توازي عنده في الأهمية حرية الضمير، ذلك أنه كاتب شاهد على عصره في الرّبع الأخير من القرن الفارط خاصّة في بلده، وفي كوبا وأوروبّا، إنه يجسّم في حياته وفي أعماله الإبداعية الصّراع الدائر بين العقل الشّعري المتسامح، والعقل الجائر التعسّفي، بين الإرادة الآمرة، والحرية والضمير.
٭ كاتب مغربي