في كتابها «عاشوا معي» الصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، تقدم لوتس عبد الكريم، مذكرات وذكريات، يوميات وتأملات، مشاهدات وملاحظات، مدونات وقراءات، وثائقَ وأحداثًا، وقائعَ واعترافات، روايات وحكايات قصيرة ومواقف، وذلك أسلوبها الذي تتبعه في ما تكتب، معتمدةً على انعكاس كل هذا على روحها وشخصيتها الفردية، لأنها تكتشف ذاتها في سياق من تكتب عنهم. عبد الكريم تصنف كتابها هذا تحت جنس السيرة الذاتية، الذي ترى أن الأدب العربي ما زال يفتقر إلى هذا النوع من الفنون الأدبية، وإن كان كُتّابه قليلين مقارنة بفنون الكتابة الأخرى.
هنا تحاول الكاتبة أن تستجلي وتستبطن وتكشف الشخصيات غير المألوفة التي تناولتها بالتحليل النفسي، والنقد والتفسير الأخلاقي والعرض المستبصر الواعي. كما تعبّر عن مشاعرها وأفكارها، إزاء هؤلاء الذين عايشتهم لسنوات عديدة. هنا أيضًا وفي كتابها الذي ترى أنه بقدر ما يمكن تصنيفه بأنه ترجمة ذاتية أو سيرة ذاتية كتبتها عنهم، فهو جزء مكمل لسيرتها هي الذاتية، التي كتبت عنها في كتبها الأخرى.
معرفة عن قرب
هؤلاء الذين كتبت عنهم عبد الكريم هنا تعرفهم عن قرب وعاشت إلى جانبهم، وتحاورت معهم وتبادلت معهم الجدال والنقاش كثيرًا، غير أنها تؤكد أنها لم تذكر هنا كل ما تعرفه عنهم، حتى لا تُغضب الأحياء من أسرهم، فقط آثرت أن تنشر أجزاء من سِيَرهم تمثل حقائق مهمة وكاشفة في حيواتهم الإنسانية خاصة، معتمدة على حسها وحدسها. «عاشوا معي» كتاب، تقول الكاتبة، يحدد ملامح بعض ممن عرفتهم في مجال الأدب والموسيقى والفنون التشكيلية والدبلوماسية والسياسة والتاريخ، رغم القيود التي أحاطت بها نفسها لحظة كتابتها عن أغلب هذه الشخصيات. هنا تكتب لوتس عبد الكريم عن توفيق الحكيم، إحسان عبد القدوس، مصطفى محمود، يوسف إدريس، حسن فتحي، جمال حمدان، بطرس غالي، وآخرين.
ولأن الكاتبة تدرك أنه لا يوجد أحد على الأرض يخلو من المثالب، فقد وقفت طويلًا أمام مميزات وفضائل من كتبت عنهم، بينما مرت سريعًا أمام المآخذ والعيوب والنقائص. وسيرًا وراء سقراط الذي نادى بمعرفة النفس حين قال، إعرف نفسك، حاولت الكاتبة أن تعرف نفوس الآخرين الذين تحدثت عنهم هنا، إلى جانب معرفة نفسها من خلالهم، ولم تفصل بين سيرتها الذاتية وسِيَرهم الذاتية، ملتزمةً جانب الحقيقة والأمانة بشكل صارم، متحرية الصدق والحقيقة، ساعية إلى بناء كتابها هذا بنبضاتها وخلجاتها معبرة عن قناعاتها، ساردة ذكرياتها وتجاربها وانطباعاتها وخبراتها، وما هو مشترك بينها وبين من تكتب عنهم، راسمة صورة لعوالمهم الظاهرة والباطنة. من خلال صفحات ومقالات «عاشوا معي» نعرف أن الكاتبة أحبت كتابة توفيق الحكيم، الذي ولد مثلها في الإسكندرية، وأن نجيب محفوظ قال عن الحكيم إنه أحق منه بنوبل، وأن عالم نجيب محفوظ الروائي مأخوذ كله من الواقع، ولكنه ليس الواقع، وأنه كاتب واقعي وليس كاتبًا فانتازيًّا وليس سرياليًّا.
مرارًا وتكرارًا
كما نقرأ عن حياة إحسان عبد القدوس وعن زوجته وبيته وعن أثره البعيد في حياتها. ونقرأ عن يوسف السباعي الذي تتألم كثيرًا كلما مرت ذكرى اغتياله بدون أن يتذكره أحد من أهل اليمين أو أهل اليسار، الذين ظلموه أدبيًّا في حياته، وبعد مماته، راصدةً ندرة الكتب والدراسات التي صدرت حول قصصه ورواياته وحياته الأدبية. هنا أيضًا تكتب عبد الكريم عن إسماعيل السباعي وهو أحد عمالقة الطب في مصر، الذي رفض أن يغادر مصر للعمل في أي دولة أخرى، وشارك في تأسيس المعهد القومي للأورام بمجهوداته واتصالاته الواسعة عام 1969. وفي حديثها عن مصطفى محمود تقول، إن علاقتها به تعود إلى سنوات طويلة منذ قرأتْ كتابه «القرآن محاولة لفهم عصري»، وقد هوجم بسببه من فئات كثيرة من الكتاب على رأسهم عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، وقد هوجم مرارًا وتكرارًا ولأسباب مختلفة، منها شبهة اعتناقه الشيوعية، ثم بسبب كتابه «الله والإنسان». أما يوسف إدريس فتصفه بالثائر المحتج دائمًا على الأوضاع، عاشقًا لمصر حتى النخاع، متبنيًا مشكلاتها وقضاياها في ثورة وجموح وإخلاص، وكان يرى أن الحياة في طبيعتها ثورة متجددة، حيث أن الكائن الحي لم يُخلق كي يتفرج على الحياة. لم يكن إدريس، تقول الكاتبة، يفصل بين الكلمة والفعل، فإذا لم تتحول الكلمة إلى فعل فلا لزوم لها.
امرأة قوية
وعن لقائها بسيمون دوبوفوار، المرأة غير العادية والفيلسوفة المختلفة، على حد وصفها لها، تقول إنها قابلتها مصادفة في باريس في المكتبة الناسينونال، واصفة ذكاءها بالحاد، وثقافتها بالمتعددة، وهي غير كل النساء، وقد جعلها اعتبارها للاحتياجات الأنثوية، وقوانين النساء مختلفة عن بقية النساء، وهي امرأة قوية استطاعت بفلسفتها وقوانين أنوثتها أن تسنّ أنماطًا من القوة والصبر والصمود، حيال أعتى ما يمكن أن تجابِه به امرأة طبيعتها. هنا أيضًا تكتب عبد الكريم عن الوصية الأخيرة لبرتراند راسل قائلة، إن هناك فنانًا محبوسًا داخل كل منا، فلنُفرج عنه حتى ننشر البهجة في كل مكان. كما تشير إلى صالون مي زيادة التي كان عصرها عصر الأدب الذي امتاز أصحابه بطرافة القول والحديث والبحث والنقد والكتابة. كذلك نقرأ في «عاشوا معي» عن الموسيقار محمد عبد الوهاب، محمد الموجي، محمد محمود خليل، رمضان عبد المعتمد، علاء عوض، والشيخ رمضان سويلم. كما تكتب عن سحر متحف اللوفر وجامعة جوته، وعن أيامها في أرض الأحلام، وعن لقائها بشيخ الأزهر الراحل عبد الحليم محمود، وعن رحلتها إلى المدينة المنورة، وعن تسوّل آثارنا للمال والاهتمام.
٭ شاعر ومترجم مصري