مذكّرات أيوب

حجم الخط
5

أيوب شخصية خيالية – واقعية، تحولت إلى بطل عمل مسرحي بعنوان: «مذكرات أيوب»، أنجزت كتابته عام 1993، وقام روجيه عساف بإخراجه على خشبة مسرح بيروت.
عندما التقيت روجيه عساف في الأسبوع الماضي، في إطار العمل التحضيري لإطلاق رابطة الأدباء والكتّاب اللبنانيين، بدا لي وكأنني ألتقي أيوب الشخصية المسرحية المدهشة التي جسّدها عساف على الخشبة منذ سبعة وعشرين سنة.
أيوب الذي قاتل في صفوف جيش الإنقاذ خلال حرب النكبة عام 1948، وساهم في معركة استقلال لبنان عام 1943، كان صوت بيروت المقاوم خلال الحصار الإسرائيلي الطويل للمدينة عام 1982، حيث كتب بخط يده شعارات الصمود والمقاومة والسخرية من جيش الاحتلال الإسرائيلي على حيطان المدينة المثقوبة بالرصاص والقذائف.
عام 1993، وفي الذكرى الخمسين لاستقلال لبنان، وجد أيوب نفسه وحيداً في مقاومة فقدان الذاكرة الجماعي الذي احتلّ بيروت بعد اتفاق الطائف وقانون العفو العام ومشروع الهدم والإعمار. رجل كهل قرر أن يقاوم ممحاة كبيرة تريد أن تمحو ذاكرة بيروت ومعناها.
لم يكن أيوب أسير ذاكرته وحنينه إلى الماضي، فحاضره ومذكراته امتلأتا بمشاعر الحب والأسى من خلال علاقته بثلاث نساء يجسدن الجرح الكبير الذي لم يتوقف عن النزف، جرح أمهات وزوجات يعشن ألم الغياب من خلال حكاية 17 ألف لبناني ومقيم فُقدوا و/أو خُطفوا و/أو تمت تصفيتهم خلال الحرب، ولا نزال إلى يومنا هذا لا نعرف شيئاً عن مصيرهم أو عن المقابر الجماعية التي دفنوا فيها.
في تشرين الثاني- نوفمبر 2019 التقيت أيوب في إحدى مسيرات الانتفاضة اللبنانية، كنت أقف مع المتظاهرات والمتظاهرين في مدخل ساحة رياض الصلح حين رأيت روجيه عسّاف وربيع مروّة، وسط حشود الشابات والشبان الثائرين. مسيرات الانتفاضة واعتصاماتها كانت مناسبة كي يلتقي الناس من جديد حول أفق بدا لنا ممكناً، ولا يزال هو الأفق الوحيد كي يخرج لبنان من عتمة المجهول الذي صنعته المافيا السياسية والمالية التي استباحت كل شيء.
لقائي بعسّاف ومروة في ذلك اليوم التشريني المشمس، ذكّرني بأيوب، فمروة جسّد في المسرحية شخصية أيوب الشاب الذي شكّل مع أيوب الكهل مرآة بيروت في تلاوينها المختلفة.
في المسرحية كان الشاب هو ذاكرة الكهل، ورسما معاً صورة المدينة التي تلتهم الجرّافات مبانيها وتدوس حاضرها وذاكرتها.
شعرت حين التقيت الأيوبين معاً أن علينا نحن الثلاثة أن نعيد ترتيب أرواحنا وذاكرتنا كي تتأقلم مع نبض ثوري يصنعه جيل شاب قرر أن يبني لنفسه ذاكرة جديدة. وقلت في نفسي إن لحظة الانفعال التي شعرتها مع الأيوبين كانت مجرد حنين إلى ماضٍ علينا أن نطويه بعناية، ونتركه يصير ذاكرة صامتة.
لكن يبدو أنني كنت على خطأ، فأيوب والحكايات المرتبطة به أو بمن يشبهونه ممن بنوا ثقافة المقاومة ليست مجرد ماضٍ علينا أن ننساه، بل هي جزء من احتمالات الحاضر.
خطئي هو أنني لم أطرح على نفسي سؤال العلاقة بين الانتفاضة الثورية التي يشهدها لبنان وبين التراكم الثقافي والفكري الذي قد تكون شخصية أيوب في المسرحية أحد تجسيداته الممكنة.
والحقيقة أن صديقي أنيس الحروب، الأستاذ في دائرة التربية في الجامعة الأمريكية في بيروت، لفت نظري إلى الأبعاد الفكرية والثقافية التي تختزنها الانتفاضة اللبنانية. كنا نقف في اعتصام أمام مصرف لبنان احتجاجاً على الاعتداء الذي تعرّض له الصحافي محمد زبيب على أيدي مرافقي المصرفي مروان خير الدين، حين أشار أنيس إلى أن الانتفاضة اللبنانية طرحت أفكاراً مست كل المحرّمات في الثقافة العربية: من المساواة الجندرية، إلى العلمنة، إلى الموقف ضد العنصرية، إلى العدالة الاجتماعية، إلى مقاومة النيوليبرالية، إلى حقوق اللاجئين السوريين والفلسطينيين…
قال أنيس إن ما يجري في لبنان هو انتفاضة سياسية وثورة فكرية وثقافية، وهذا ما يعطيها فرادتها في سياق انتفاضات الربيع العربي.
لست متأكداً من أن الانتفاضة استطاعت أن تتحول إلى ثورة فكرية وثقافية، فنحن لا نزال في بداية مسار طويل ومعقد، لكنني أميل إلى الاعتقاد بأن العمل الثقافي الجذري الذي صنعته الطليعة الأدبية والفنية والثقافية، خلال عقود مقاومة الاستبداد الطائفي والنظام الأمني والقمعي، لم يذهب هباء، بل دخل في نسيج الانتفاضة ولغتها ومقترباتها.
والحقيقة التي أريد أن أعترف بها هي أنني التقيت أكثر من أيوب واحد في شوارع الانتفاضة اللبنانية وساحاتها. صحيح أنه كان يحمل أسماء متعددة، لكنه كان هو، تماماً كما تخيلته منذ سبعة وعشرين عاماً. رأيته كهلاً ورأيته رجلاً في الخمسين ورأيته شاباً في العشرين. الشاب لم يكن هذه المرة ماضي الرجلين بل كان مستقبلهما، لم يكن ذاكرة بل كان أفقاً جديداً.
أيوب العشريني الذي رأيته في المظاهرات كان يقود الأيوبين الآخرين إلى البداية الجديدة. أيوب هذا لن يقف في نهاية العرض كي يصرخ: «لا القصة مش لازم تخلص هيك»، كما فعل سنة 1993، بل أراه يقف محاطاً بأبناء المفقودين وفقراء لبنان وشاباته وشبابه ليصرخ بأنه وجد قصته. فالقصة التي لم تنته عام 1993، بدأت من جديد في 17 تشرين 2019.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    الطائفية هي وقود الفساد في لبنان والعراق! يجب أن ينبذ شعبي العراق ولبنان الطائفية حتى يقضوا على الفساد!! ولا حولولا قوة الا بالله

  2. يقول سوري:

    صبرنا جميعا صبر أيوب على أنظمة الاستبداد والاستعباد والخيانة والفساد والطائفية والإجرام، واليوم كما تقول ام كلثوم العظيمة للصبر حدود. نحن جميعا أيوب 17 تشرين الثاني، و 15 آذار السوري. ايوب الثائر ضد كل هؤلاء.. سنؤسس لذاكرة جديدة ركيزتها الثقافة والعلم والانفتاج ونبذ الطائفية وسياسات الانبطاح امام العدو وفساد المال

  3. يقول علي الحيفاوي:

    تحياتي العطرة من فلسطين الجريحة إلى سوريا الجريحة لهذا الأخ الذي يكتب باسم “سوري”. تعجبني تعليقاته الغنية الهادفة التي أقرؤها من فينة لأخرى.

  4. يقول سوري:

    شكرا اخي الفلسطنيني علي الحيفاوي
    معركتنا واحدة
    دمت اخا عزيزا

  5. يقول آصال أبسال:

    زاوية الأخ إلياس خوري هي أيضا من الزوايا التي تستأهل الاهتمام والتعليق ولا شك، خاصة من حيث المحتوى السياسي والأسلوب الأدبي الرفيع الذي تتخلله أصداء غياثية هنا وهناك كذلك.. !!
    فقط ملاحظة بسيطة أود أن أبديها حول استعمال عبارة “المساواة الجندرية” بشكلها “المنقحر المعربن” الذي لا يني يخدش آذان الغيورين على لغتهم الجميلة.. على الرغم من أن أغلبية تلك المحاولات اللغوية “الثورية” التي قام بها كمال أبو ديب لم ترق لي بأي هيئة كانت /ناهيك عن ترجمته التشويهية لأهم عملين من أعمال الراحل إدوارد سعيد/، إلا أن الاشتقاق المولد الوحيد لمفردة “الجنوسة” التي جاء بها من جراء تلك المحاولات لا بأس من استخدامها، في هذا السياق، على الأقل بنتيجة أقل خدشا للآذان من مفردة “الجندر” بشكلها “المنقحر المعربن” ذاك.. !!

إشترك في قائمتنا البريدية