مراجعة التجارب

كنت ذكرت كثيرا، أنني أهتم بالقراء، أشاركهم آراءهم في كثير من الأحيان، وأرد على الأسئلة التي تردني منهم سواء أن كان ذلك مباشرة في لقاء عادي أو ندوة، أو عبر البريد الإلكتروني، بكل محبة.

بالطبع ليس كل الأسئلة التي ترد، لأن السؤال الذي يطرح في العادة، يبين إن كان القارئ مهتما فعلا، ولديه فضول لمعرفة المزيد، أم مجرد عابر باللقاءات، يجلس بلا ذهن، ويسأل في أشياء لا علاقة لها بالتجارب الكتابية، وأحيانا مستفزة، ويخرج وقد امتلأ غبطة، أنه أغاظ بعض الناس، وما زلت أذكر قارئا في أحد معارض الكتب، سألني إن كنت تأثرت بكاتب معين، وبحثت في ذهني ولم أعثر على الاسم الذي ذكره، وأجبت بأنني لم أقرأ له، وعرفت في ما بعد أنه لا يوجد كاتب بذلك الاسم، إنه مجرد استفزاز لا ينبغي أن يحدث، تماما مثلما يحدث في برامج البث المباشر في التلفزيون، حيث يتلقى مقدموها أنماطا من الكلام، معظمه غير لائق بتكونه على اللسان حتى.

السؤال هذه المرة، بدا من قارئ يعرف التجارب الكتابية، ويذكر بعضها بكل احترام، مثل تجربة ميلان كونديرا، التي نعرفها جيدا، وتجربة الياباني ياسوناري كواباتا التي نعرفها أيضا عبر روايات قليلة، ومجموعة من القصص القصيرة. يقول: أليس من الضروري للكاتب أن يتوقف فترة عن الكتابة، يراجع فيها ما قدمه كله، قبل أن يعود إلى قرائه مرة أخرى؟

سؤال جيد، والكاتب بالقطع ليس ماكينة إنتاج، تعمل بالكهرباء، لكنه حصيلة تجارب ومعارف وأفكار كثيرة، تأتي في أوقات معينة، وتلزمه بالجلوس والكتابة، وقد تأتي تلك الأمواج يوميا، وقد تأتي مرة في العام، أو مرة كل عامين أو ثلاثة، أيضا قد تأتي مرة واحدة في العمر، ليكتب بها رواية واحدة ويصمت، هذا إن استبعدنا قصدية الكتابة، وهي عادة جديدة على مجتمع الكتابة، يقصد فيها الناس أن يكتبوا قصائد وروايات وقصصا، ومسرحيات، من دون حتى أن يلموا بما كتبه آخرون سبقوهم بسنوات طويلة. أي عادة دخيلة، مع قطيعة كبرى مع التراث الكتابي.

إذن تلك الموجات المعرفية التي تحمل الأفكار، هي ما يولد الكتابة، ما يجعل واحدا ينتظم في مشروعه وآخر لا يستطيع الانتظام بسبب انعدام ما يدفعه، ولذلك نجد كتابا ينشرون باستمرار، ويتهمون بغزارة الإنتاج وأنه يضعف الكيف لديهم، ولا أحد ممن يقولون ذلك مستعدا لإيجاد ذلك الضعف الكيفي، وطرح حلول للتغلب عليه، إنه مجرد كلام يسد ثغرات المقالات، التي تكتب في هذا الشأن.

أيضا يتهم آخرون بقلة الإنتاج مما يبعدهم عن أذهان القراءة، وقد يستبدلهم القارئ بكتاب آخرين وهذا أيضا تكملة للمقالات التي دائما ما تقف حائرة، كيف تمتلئ وكل المواضيع مطروقة، والأفكار الصحافية لدى أحدهم هي نفسها لدى آخر؟

وبالفعل حين تكتب في أي شيء، تجد هناك ما كتب عنه بإسهاب، والآن في موضوع كورونا وروايات الوباء، ستجد عشرات المقالات التي أشارت لروايات الوباء، ليس في العربية فقط، ولكن حتى بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية، والملفت هنا، أن لا أحد من الذين تصدوا لذلك الموضوع، تطرق بالتحليل الحقيقي لواحدة من تلك الروايات، إنها حكاية واحدة، عن الطاعون، وزمن الكوليرا، وإيبولا، وعمى ساراماجو، تنتقل من قلم إلى قلم، ومن لغة إلى لغة، ولا شيء آخر.

أعود لموضوع تقييم التجربة الذاتية، وهو أمر إن حدث ليس سيئا، أي أن الكاتب صاحب الرواية السنوية، أو نصف السنوية، إن استطاع التغلب على موجات الأفكار التي تضغطه ليكتب وحصل على إجازة قضاها خارج مكتبه، لا بأس، وأي وظيفة بحاجة لفترة من التوقف عن ممارستها، من أجل العودة إليها بشوق، لكن هل الكتابة وظيفة؟

نعم الكتابة اليومية التي ينتهجها البعض خاصة في الغرب، وظيفة حقيقية، لأن فيها متعة ممارسة عمل تحبه، وأيضا فيها ساعات تجلسها خلف مكتب، وكومبيوتر مفتوح يتلقى الأفكار، وفي النهاية راتب جيد، يحصد من العمل المنجز، يستطيع الكاتب به أن يعيش ويسافر ويجيء، ويتأنق، ويشتهي أشياء، يمكن أن يقتنيها ولا تظل أشياء مشتهاة فقط.

لا بأس أن يقرأ شيئا من كتبه القديمة، والجديدة أيضا، الكاتب أو المبدع عموما يستطيع أن يدرك إن كان نصه ما يزال مؤثرا أم لا؟ ويستطيع بكل تأكيد أن يرى الثغرات التي أغفل عن ملئها في زمن ما، ويستطيع أن يملأها الآن، إن عاد به الزمن إلى عام كتابته ذلك النص، بسبب ما اكتسبه من خبرات.

وكنت من الذين غامروا بإعادة كتابة نص من أيام البدايات، كما ذكرت قبلا، وكتبت ذلك في الصفحة الأولى للكتاب مما خلق عداء كبيرا له من جانب القراء، حتى قبل الاطلاع عليه، ذلك أن معظم من اقتنى تلك الرواية كما أعتقد، لم يكن مؤهلا لمشاركة كاتب مغامرة قام بها.

في المقابل، غامرت مرة أخرى بإعادة كتابة نص آخر، من البدايات أيضا، وصدر في طبعة محدودة في صورته الأولى، ولم أذكر ذلك في المقدمة، ومضى النص أكثر من عادي، حصل على إشادات كنت موقنا أنه لم يكن ليحصل عليها، لو ذكرت في البداية، أنه مغامرة إعادة كتابة عمل من زمن البدايات.

التوقف عن الكتابة في إجازة ليس ضارا بالتأكيد، وقد لا يستفيد منه الكاتب لأن تجربته مضت وتمضي بخيرها وشرها، وأيضا قد لا يستفيد منه القارئ المداوم على قراءة كاتب ما، فقط، يعطي حيوية جديدة للصبر الذي يجلس به أحدهم ليكتب.

*كاتب سوداني.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آصال أبسال:

    /إنها حكاية واحدة، عن الطاعون، وزمن الكوليرا، وإيبولا، وعمى ساراماجو، تنتقل من قلم إلى قلم، ومن لغة إلى لغة، ولا شيء آخر/..
    تجدر الإشارة، للتصويب المفهومي هنا، إلى أن رواية “الطاعون” لكامو ليست غايتها مخاطبة الوباء المعني بقدر ما هي استغلال له لتمرير موقف عنصري خفي.. وأن رواية “الحب في زمن الكوليرا” لماركيز ليست عن الوباء المعني أصلا بقدر ما هي عن استخدامه الفردي لكسب الآخر (كسب ود الحبيبة، في هذه الحال)..

إشترك في قائمتنا البريدية