نأى الرئيس الأمريكي جو بايدن بنفسه عن زيارة “الناطقة” – أي رئيسة مجلس النواب في الكونغرس – نانسي بيلوسي إلى تايبيه. واحتج بالموقف المتحفظ للقيادة العسكرية تجاه هذه الخطوة التي زادت العلاقات الأمريكية الصينية التهاباً. لكن بايدن ما كان باستطاعته منع بيلوسي عن هذه المحطة في جولتها الشرق آسيوية، وهي الزيارة الأولى لمسؤول أمريكي بهذا المستوى الى تايبيه منذ ما يربو عن ربع قرن، ومن شأنها تعريض الستاتيكو الذي تُدارى به “المسألة التايوانية” منذ عقود لاختبار غير مأمون العواقب.
كما أنها هي نفسها بيلوسي التي أمّت ساحة تيان آن مين قبل 31 عاماً، وكانت وقتها نائبة عن كاليفورنيا، ذلك بعد عامين على المجزرة بحق الشباب المطالب بالإصلاحات والحريات، ورفعت قماشة تحمل عبارة “الى الذين قضوا هنا في سبيل الديمقراطية” وطردت يومها من الساحة. وبيلوسي مثابرة من يومها على تبني كل ما يُثار بوجه بكين من قضايا حقوق إنسان واضطهاد قومي لشعبي التيبت والأويغور ومن تأييد حماسيّ للاحتجاجات في هونغ كونغ 2019.
ينتمي كل من بايدن وبيلوسي مع ذلك إلى المعسكر السياسي نفسه، الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، ويرمز كل منهما من زاوية التحدر الديني الكاثوليكي الى الاختلاف الذي بات يطبع هذا الحزب عن سواد “البروتستانت البيض”، الكتلة الإثنية الدينية الغالبة في الولايات المتحدة.
كما أن بيلوسي تتبوأ المرتبة الثانية من بعد نائبة الرئيس في تسلسل التداول الرئاسي بحسب الدستور، أي أنها ستصبح بشكل آليّ هي الرئيسة لإكمال ولاية الرئيس الحالي في حال شغور منصبه هو ونائبته. مع هذا، لم يكن بالمستطاع ثنيها لا من قبل بايدن ولا من سواه عن عنادها بما يخصّ تايوان، وليس بمستطاع أحد في المقابل إقناع بكين أن الزيارة من بنات أفكار بيلوسي، وليست خدعة تتبعها الولايات المتحدة وتوزّع فيها الأدوار للرئيس بأن ينأى بنفسه، ولرئيسة النواب بأن تستفز وتغامر.
بايدن ما كان باستطاعته منع بيلوسي عن هذه المحطة في جولتها الشرق آسيوية، وهي الزيارة الأولى لمسؤول أمريكي بهذا المستوى الى تايبيه منذ ما يربو عن ربع قرن، ومن شأنها تعريض الستاتيكو الذي تُدارى به “المسألة التايوانية” منذ عقود لاختبار غير مأمون العواقب
واقعة أن بيلوسي تجترح “ديبلوماسية برلمانية موازية” للديبلوماسية الرسمية الأمريكية ليست تفصيلاً طفيفاً هنا. في الوقت نفسه، تغرف هذه الواقعة من التباس سابق عليها، من رياء استراتيجي مزمن يسود العلاقات الأمريكية الصينية. فبعد انتصار الشيوعيين في البر الصيني، والتجاء الحزب القومي الصيني الكيومنتانغ بقيادة تشانغ كاي تشيك الى تايوان بوصفها المكان الوحيد الحر لممارسة سيادة “جمهورية الصين” الشرعية، احتفظت تايوان بالمقعد الدائم العضوية للصين في مجلس الأمن حتى بداية السبعينيات، يوم أتم هنري كيسنجر زيارته غير المعلنة للقاء ماو تسي تونغ من جهة، ويوم طردت الصين الوطنية (تايوان) من المقعد الدائم العضوية في مجلس الأمن فأعطي للصين الشعبية.
في السبعينيات، جاء التقارب الأمريكي الصيني في إطار معادلة ستحكم الجزء الثاني من الحرب الباردة، معادلة التواطؤ بين واشنطن والنظام الشيوعي الصيني في وجه الاتحاد السوفياتي وحلفائه. واستوجبت إقامة العلاقات الديبلوماسية بين واشنطن وبكين في أواخر السبعينيات قطعها بين واشنطن ونظام ورثة تشانغ كاي تشيك في تايبيه. في الوقت نفسه، عندما قطعت واشنطن علاقتها الرسمية مع “جمهورية الصين” لصالح الصين الشعبية، عادت وأتبعت ذلك بقانون العلاقات مع تايوان الذي شرّعه الكونغرس، ويقضي بمساعدة الجزيرة عسكرياً، دون الالتزام بصد غزو البر الصيني لها بشكل واضح، ودون الاعتراف بشرعية نظامها في الوقت عينه، ومن يومها تقول الولايات المتحدة الشيء ونقيضه، تؤيد “سياسة الصين الواحدة” لكنها تدعم تايوان عسكرياً بشكل مثابر، وهو رياء كان مدار تهكم من دونالد ترامب أيام حملته الرئاسية قبل وصوله الى البيت الأبيض. وبيلوسي، التي اشتهرت بمقتها لترامب وتمزيقها لخطابه ذات مرة، تشاركه التبرّم من هذا الرياء تجاه مسألة تايوان، سوى أنها بخلافه، تجعل من ديمقراطية الحكم في هذه الجزيرة نقطة ارتكازها بوجه الصين.
لم تدل بيلوسي مع ذلك بما ينمّ عن رفضها من حيث المبدأ لسياسة الصين الواحدة. أساساً هذه مقولة ليس تفسيرها بهذه البساطة. فبعد خسارة القوميين للبر الصيني عام 1949 والالتجاء الى تايوان والجزر المحيطة بها الأخرى، أصرّ هؤلاء القوميون الكيومنتانغ في الوقت نفسه أن لا هوية لهم إلا الانتماء للصين ككل، ولم يكن موقفهم في مسألة التيبت أكثر مرونة من موقف الشيوعيين في بكين، بل أخذوا على الشيوعيين التنازل عن منغوليا والاعتراف باستقلالها. وأكثر، اعتبر القوميون الكيومنتانغ أن مهمتهم في تايوان تقتضي بإعادة تصيينها، ما خلق إشكالاً مزمنا بين العشرة بالمئة من السكان الذين أموا الجزيرة هرباً من الشيوعيين، وبين التسعين بالمئة الآخرين، رغم أن معظم هؤلاء يتشاركوا في التحدر الاثني من شعب الهان، القوم الأكثري في البرّ الصيني.
لكن المهاجرين مع تشانغ كاي تشيك تعاملوا مع المتحدرين من هجرات هانية سابقة الى الجزيرة على أنه يلزمهم إعادة تصيين، بعد عقود من السيطرة اليابانية (بين 1895 و1945)، وعمل النظام القومي في الجزيرة على فرض الماندرانية، على حساب اللغة الهوكية “التايوانية”، لسان أكثر السكان. لقد مارس الكيومنتانغ سياسات محاكية للاستعمار في هذه الجزيرة التي لم يبق له غيرها بعد خسارته للصين القارية، وأحياناً بذريعة ان هذه الجزيرة تشوهت صينيتها بفعل الاستعمار الياباني، هذا الاستعمار الذي منحها في الوقت نفسه قاعدة صناعية.
في الوقت نفسه، وحتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، كانت الجزيرة تنوء تحت الأحكام العرفية. لكن التحول الديمقراطي شق سبيله في النهاية، ولم يعد الكيومنتانغ هو الآمر الناهي في أحوال الجزيرة. بل حدث الانتقال الى منطق تداول السلطة، ومع التداول فرضت المسألة الهوياتية نفسها. قبل الانتقال الديمقراطي كانت الأمور محسومة، تايوان ليست فقط صينية بل هي الصين الحقيقية والشرعية، كل ما ينقص نظامها هو إعادة فرضه على البر الصيني. تبدلت الحال، أقلية فقط من سكان الجزيرة لا تزال تعتبر نفسها صينية فقط، وهناك ميل متعاظم لإبراز هوية تايوانية منفصلة. وبين هذا وذاك لا تزال أكثرية السكان تعيش الهوية الثنائية “صينية وتايوانية”. منهم من يعتبر أن الصين أساسا انتهت مع الماوية والثورة الثقافية ولم يبق منها غير تايوان. منهم من يشدد على أن الجزيرة تطورت منذ اواخر القرن التاسع عشر بشكل مختلف عن البر الصيني، ويحيل الى جمهورية الخمسة أشهر التي قامت في الجزيرة عام 1895 بين الجلاء الصيني عنها والاستيلاء الياباني عليها.
المفارقة أن الكيومنتانغ، الحزب القومي الصيني، الحزب الخاسر للحرب الأهلية عام 1949 والذي كانت خسارته للبر هي السبب لانفصال تايوان عن بقية الصين، هو القوة الأكثر اعتراضاً على المسار الانفصالي المتعاظم حالياً بين مواطني تايوان، بل بات الكيومنتانغ يقيم علاقات خاصة بالنظام القائم في بكين للعمل سوية ضد النزعة الانفصالية.
أما الجانب الآخر لهذه المفارقة فهي ان الحزب الشيوعي الصيني نفسه، الحزب الذي هزم الكيومنتانغ وطرده من الصين القارية، تطور بعد رحيل ماو بشكل يحاكي فيه تجربة الكيومنتانغ، وبات يعتمد أكثر فأكثر على الحمية القومية لشعب الهان، الأكثرية الإثنية في الصين كما في تايوان، ويبدو كما لو أن الصين بعد ماو قد تابت مجدداً الى تصور تشانغ كاي تشيك الذي يجمع بين السلطوية وبين اللبرلة الاقتصادية وبين المحافظة الثقافية الاجتماعية.
كاتب لبناني