لعل أهم ما يمكن استخلاصه من مظاهر الاختلالات الضاربة بجذورها في محيطنا العربي الإسلامي، تلك الاستراتيجية التي دأبت القيادات المدنية أو العسكرية على اعتمادها في تنفيذها لقرارات الانقلاب ضد السلطات الحاكمة. حيث يمكن معاينتها في توظيفها لأكثر الآليات قدرة على الدفع الأهوج بترسانة العنف إلى حدودها القصوى، بصرف النظر عما يمكن أن تسفر عنه عشوائية هذا الدفع من حرائق، غالبا ما تأتي على الأخضر والأخضر.
وإذا ما نحن أخذنا بالاعتبار، أن العنف الانقلابي لا يسمح مطلقا بمد أي مسافة استدراكية تسمح بإعادة النظر في تعقيدات العلاقة القائمة بين الأداة والغاية، وأنه/العنف الأعمى لا يسمح بتاتا بإعمال الفكر في ما تترتب عنه مغامرة تنفيذ القرار، بما هو حقل ملغم بقنابل تداعياتها. فالقرار الانقلابي هنا، غير معني مطلقا بتمثل هذه التداعيات، أو باختبار منهجية تفاعله معها، بقدر ما هو اختيار نهائي، صادر عن قناعة دموية، قوامها التسريع بوضع اليد الحديدية على الكعكة المقدسة، والتعجيل باختطافها من على مائدة السلطات الرسمية، التي تحتكر اختصاصات إعدادها والتهامها. وغياب مفهوم التمثل والفهم في السياق الذي نحن بصدده، يعني مبدئيا غياب أي وعي عقلاني ومعرفي بميكانيزمات الهدم والبناء السياسي، الكفيلة بإحداث التغيير الحقيقي. وهو الغياب الذي تتسع معه الهوة السحيقة الفاصلة بين هاجس التهام الكعكة، ومسؤولية التدبير السياسي العقلاني والحضاري، الذي تتطلع إليه الشعوب المغلوبة على أمرها، ونعني به التدبير الذي لا علاقة له بمنطق التغيير التدميري، الذي تتطلع إليه القيادات المزعومة، بقدر ما هو فعل حضاري وثقافي، يلقي مسؤوليته على عاتق مختلف الشرائح المجتمعية، انسجاما مع حقها الديمقراطي والمشروع في تقاسم مهام البناء، بما هي مهام تستند في إنجازها إلى توافر الخبرة المعرفية بآليات التدبير العام والشامل، لمختلف القطاعات الحيوية، إذ بقوة هذه الآلية فقط، يمكن أن تتحقق فرص تأهيل المسارات المعنية بالتغيير الحقيقي، ودونها، سيكون من الطبيعي أن يتصدر العنف المشهد السياسي، على أنقاض هشاشة سياسية وثقافية، مصابة حتى النخاع بطاعون الأمية وقوانين النهب. أيضا سيكون من الطبيعي أن يكتسح الخراب، ما تبقى من المشهد، دون منازع، حيث لا أمل ينتظر من أي بدائل مستنسخة هي الأخرى شكلا ومضمونا من تجارب همجية، لا تقل عنفا ودموية.
مقابل هذا النزوع التخريبي الذي يتحين فرصة انقضاضه الثابت والمتحرك، تمارس دواليب الأنظمة الحاكمة لعبة تفريخها لأحزابها، ولجمعياتها الأمنية، المكلفة بتعميم ما تبرمجه من توجهات، حيث تتضح هكذا وبالملموس، صورة مشهد موغل في فجاجته، من خلال إيحائه ظاهريا بسيادة مناخ حداثي، قوامه التواصل والحوار الديمقراطي، فيما هو مبطن ومشحون بتعاليم مخزنية عتيقة، تتربص بكل المبادرات المناوئة والمضادة، والجاهزة في أي لحظة، للمجاهرة بشراسة قواطعها، تلك هي بامتياز الحداثة الفصامية، المستبدة بمجموع مكونات الجسد العربي الإسلاموي، التي تطال أغلب بنياته وقطاعاته، سواء كانت ذات طابع مؤسساتي، أو ذاتي.
إنها بتعبير مجازي، مأساوية السير المزدوج، في مسارين متضادين لا ناظم لهما، أي مأساوية حداثة برأسين متنافرين، كل واحد منهما يحدج الآخر بتقطيبة الإقصاء، حيث ما من إمكانية محتملة للتواصل أو التفاهم، وحيث يجد الملاحظ نفسه بصدد حداثة تسهر في ظلماتها نخب مستسلمة لمتعة تشييد أبراجها النظرية، على واقع رمال متحركة وخرقاء، لا تتردد في إشهار تهديدها للأبراج وساكنتها، كلما دعت ضرورة الهدم لذلك.
إن الحداثة المعطوبة من هذا المنطلق، تبدو عاجزة تماما عن الارتقاء بأسلوب عملها إلى مستوى الشأن العام، باعتبارها غير قابلة للامتداد والانتشار خارج كل من الأسوار القمعية والدوائر الثقافية المغلقة على السواء. وحالما يتعذر ذلك، تظل حبيسة نفق الاستحالة، وعاجزة عن تجاوز حدود سرديات طوباوية، تكتفي باستقطابها للنخب المتوحدة بأوهامها. وبالتالي، فإن المشاريع الحضارية المتبناة داخل هذا الواقع، ستظل مراوحة مكانها، مفسحة المجال لاضطرام نيران النهب بين الفرقاء. نيران حرب معلنة ومضمرة في آن، بين جحافل القبائل الحزبية وتنظيماتها، بيمينها ويسارها، تحت قباب البرلمانات وخارجها، تحت يافطة الموروث الديني، كما تحت يافطة اللائيكية والعلمانية، ضمن أطاريح الحداثة المفترى عليها، ما قبلها وما بعدها. وبالنظر إلى الفقر الفكري الذي ينخر عقل السلطات الحاكمة، فإنها ستكون بحاجة ماسة إلى تصعيد المزيد من العنف وإراقة ما أمكن من الدماء، وإطلاق المزيد من دوامات البطش، كي يظل البؤس المؤسساتي في منأى عن فضول العيون المتربصة.
ولعل الإبدال الوحيد المعول عليه في هذا السياق، هو إبدال الفساد والإفساد، بكل نماذجه الإدارية والسياسية والثقافية، إنه الإبدال المركزي، المتعدد المقامات والاختصاصات، الذي له فقط يعود «فضل» تسويغ ظاهرة النهب والسطو. إنه في هذا المعنى، ضرب من الجشع الهمجي، الذي لا تتورع معه الذات المفسدة عن تفجير طاقاتها الأكثر بدائية وتخلفا، كي تفوز بأكبر حصة ممكنة من حصص النهب. إبدال تتضاءل أمام سطوته «المهيبة!» كل المبادرات التي تتخذ من القيم الثقافية والحضارية مرجعا أساسيا لها. فلا تعدو – من وجهة نظر المفسدين- أن تكون التعبير الصريح عن افتقار أصحابها إلى الحد الأدنى من شرط العقلانية والواقعية، حيث أصبح الفساد النموذج الناجح والمتقدم للإبدالات العقلانية، التي تتفنن المرحلة في تطوير آلياتها ووسائطها، وكلها عوامل من شأن شيوعها وتضخمها، تعطيل فرص تعبيد الطريق أمام ذلك المخلص الميثولوجي الغارق وإلى الأبد في سباته. هناك، بين سرديات الانتظار القاسي عوامل، من شأن تراكمها أيضا، تعميق الوعي بهوس مقولات التأسيس لدى النخب المنسية داخل أروقتها. إذ كما هو معلوم، حيثما تتموضع مطارح الخواء، يتم استنفار الحاجة للتأسيس، الذي يلهث خلف كل رؤية وكل فكرة، وكل سياق، استجابة لبؤس ذلك الانتشار الفاجع الذي تتميز به المطارح ذاتها. إنه الخواء القاتل والمدمر، المقيم في مضارب المعيش، بمجموع ما يتخللها من تشققات سياسية واقتصادية وثقافية. الخواء الذي يستحث شبيهه من أجل الانخراط العاجل في مسلسلات التأسيس، بما هي مسلسلات استدراكية لما ينبغي ملؤه، بصرف النظر عما هو منتظر أساسا من لعبة التأسيس هذه، وكذلك بصرف النظر عن المادة والصيغة الموظفة فيها، ما دام السيد الخواء بتعدد طوائفه المتشرذمة، وبتباين مرجعياته المبتسرة، قد أخذ على عاتقه سلفا، مهام التأسيس الأرعن لمدائنه.
من هنا يمكن القول، إن مجرى المسار برمته، سينحفر في قلب ذلك التناحر الأهوج والمصيري، الذي تمسك بزمامه السلط المتضاربة والمتناحرة، حتى آخر قطرة دم في جسد الهواء. هكذا تحديدا، يمكن الحديث عن تواجد قبائل تأسيسية لمدن فاضلة عالقة بمكائد الحافات، حيث تحظى كل فأس طائشة، بنصيبها الوافر من مرتجلة الهدم والتخريب.
شاعر وكاتب من المغرب