الناصرة- “القدس العربي”:
أكد مركز “مدى الكرمل” للدراسات الاجتماعية التطبيقية أن لجنة المتابعة العليا وهي الهيئة السياسية الأعلى للفلسطينيين في إسرائيل قد باتت هيكلا متقادما مترهلا تعمقت أزمته في ظل تمدد القائمة المشتركة وتغليب البرلمان على الميدان.
واستذكر “مدى الكرمل” انتخاب المجلس المركزيّ للجنة المتابعة في الشهر الماضي محمد بركة لولاية ثانية رئيسًا لها، وكان بركة هو المرشّح الوحيد الذي أعلن عن ترشُّحه لرئاستها، إذ لم يبادر أيّ حزب إلى طرح مرشّح حتّى إغلاق باب الترشيح.
وهكذا كان الاختيار أمام المصوّتين إمّا التصويت لصالح بركة، وإمّا اختيار الورقة البيضاء فحصل على تأييد 54 عضوًا من أصل 62 عضوًا في المجلس المركزيّ.
وأظهرت معاينة مواقف الأحزاب والحركات السياسيّة المركِّبة للجنة المتابعة أنّ هناك توافقًا واتّفاقًا حول التفاصيل الإجرائيّة لانتخابات رئاسة المتابعة، باستثناء حركة أبناء البلد، بينما ظهر محمّد بركة مرشَّحًا توافقيًّا بين غالبيّة مركّبات اللجنة الذين لم يطرحوا مرشَّحين للرئاسة. في المقابل، أعلنت حركة “أبناء البلد” مقاطعة الانتخابات، موضِّحة موقفها في بيان أصدرته حول ذلك.
وقالت الحركة في بيانها: “إنّنا في حركة أبناء البلد نعلن عدم مشاركتنا في عمليّة انتخاب رئيس للجنة المتابعة برمّتها”، داعية “القوى السياسيّة الـمُشَكِّلة للمتابعة، مراجعة موقفها هذا، وتأجيل الانتخابات المزمع إجراؤها يوم السبت القادم وتبنّي كافّة التعديلات الدستوريّة (تعديلات كانت الحركة قد تقدّمت بها في وقت سابق) قبلها”.
وطالبت كذلك “كافّة أعضاء اللجنة ورئيسها (محمّد بركة) العدول عن الانتخابات على هذا النمط، وتأجيل موعدها لموعد يفتح الباب أمام مرشّحين يجدون في أنفسهم الكفاءة لهذا التكليف من جهة، ويعمّق النقاش حول التعديلات الدستوريّة ويعطي ضمانات لتنفيذها من جهة أخرى”.
وتابعت قائلة: “في هذه الأيّام وبعيدًا عن أعين الناس، وحتّى عن كوادر الأحزاب الرياديّة يجري الإعداد لإجراء انتخابات رئاسيّة للّجنة، دون الخوض في برامج أو سياسات ولا حتّى نقاش أيّ تعديل وتطوير لما كان بشكل معمّق، بل على العكس تمامًا، حيث جرى فتح باب الترشيح يوم السبت وسيتمّ إغلاقه يوم الأربعاء! دون إعلام وإعلان جدّيّ يفتح الباب أمام مناقشات ومرشّحين، لتعود اللجنة إلى أسلوب أشبه ما يكون بالمخترة، يُفقد هذه اللجنة التمثيليّة العليا لِما تبقّى من هيبتها ويُبعدها أكثر عن أبناء شعبنا الذي تمثّله”.
وقد أيّد التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ ترشيح بركة لولاية ثانية استنادًا إلى قرار المكتب السياسيّ للحزب، وجاء في بيانه: إنّ التجمّع يفضّل لو كانت منافسة جدّيّة على رئاسة لجنة المتابعة وكان هناك أكثر من مرشّح، فهذا هو الأمر الطبيعيّ والفعل الديمقراطيّ الأسلم، منوها إلى أن التفاعلات السياسيّة بين مركّبات المتابعة جاءت بنتيجة أن يكون هناك مرشّح واحد.
ويرى “مدى الكرمل” أن هذه الانتخابات الأخيرة لرئاسة المتابعة قد أظهرت تبايُناتٍ جديدةً بين مركّبات لجنة المتابعة، وعدمَ قدرتها على طرح مرشّحين لمنصب رئاسة اللجنة، فضلًا عن التغنّي بتصوُّراتها المعروفة عن إعادة بناء لجنة المتابعة.
وتابع المركز البحثي “مدى الكرمل”: “يبدو موقف غالبيّة المركّبات كحالة هروب من مواجهة الواقع بدلًا من إصلاحه، باستثناء حركة “أبناء البلد” التي أعلنت انسحابها العلنيّ من عمليّة الانتخابات”، منوها لما جاء في بيانها ضدّ إجراءات وممارسات للرئاسة الحاليّة أنّها تتوقّع “ضياع خمس سنوات إضافيّة” من إمكانيّات وفاعليّة لجنة المتابعة.
في موازاة ذلك، انتقدت مجموعة من الكتّاب والأكاديميّين والناشطين والصحافيّين الفلسطينيّين عدمَ ترشُّح أيّ منافسين من قبل جميع المركّبات، ومرورَ هذا الحدث مرور الكرام. ويستنتج “مدى الكرمل” أنه هنا يُطرَح السؤال: هل فقدت لجنة المتابعة فاعليّتها ودَوْرها؟ ويترتّب علينا أن نراجع دَوْرها وإمكانيّاتها والنقد الأساسيّ إزاءها، أَلا وهو المطالَبة بِـ”الانتخاب المباشر” للرئيس من قِبل الجماهير العربيّة الفلسطينيّة في الداخل.
صراع أحزاب
ووصفَ المدير العامّ لمدى الكرمل، مهنّد مصطفى، هذه التطوّرات الأخيرة بأنّها “لم تعد في دائرة اهتمام الناس، أي لم يعد هناك فارق بالنسبة للجماهير حول هُويّة رئيس اللجنة، إذ إنّ الاهتمام بهذا الشأن بات جزءًا من صراع أحزاب ومركّبات في المتابعة فيما بينها، أمّا ما الذي يحمله ذلك من تغيير أو عدم تغيير في عمل وأداء المتابعة، فلم يعد ذلك يشكّل فرقًا لدى الناس، هذا إذا افترضنا أنّ هناك أصلًا اهتمامًا بالموضوع”.
وبحسب تقدير دكتور مهند مصطفى فإن ذلك ما هو إلّا انعكاس ليأس الجماهير العربية من دَوْر الأحزاب عمومًا، وتقلُّص الحقل السياسيّ والسياسة عمومًا في عمل وأداء الأحزاب والحركات السياسيّة بعد تشكيل القائمة المشتركة.
وبحسب تشخيص مهند مصطفى الباحث المختص في الشؤون المجتمعية فإن ثمّة أدلّة لهامشيّة لجنة المتابعة التي يستعرضها “مدى الكرمل” في محاولة لتأطير الأزمة الراهنة، وتحليل مشكلاتها البنيويّة. ويتبيّن لـ”مدى الكرمل” أنّ حال لجنة المتابعة هذا ليس وليد الظروف الاستثنائيّة التي نعيشها هذا العام (انتخابات برلمانيّة متكرّرة، وجائحة الكورونا).
ففي مقالة تحمل العنوان “لجنة المتابعة والحالة الفلسطينيّة الداخليّة”، أشار مهنّد مصطفى إلى هامشيّة لجنة المتابعة إذ قال: “تتبدّى حالة الترهّل السياسيّ التي وصلت إليها هذه المؤسّسة، التي تَعتبر كلُّ مركّباتها مجرَّدَ بقائها بشكلها الحاليّ حاجةً سياسيّة ووطنيّة ملحّة، ولكن يبقى هذا المبرّر حائلًا دون المثابرة صوب إصلاحها، فبقاؤها أفضل من غيابها”.
ويوضح “مدى الكرمل” أن جميع الأحزاب والحركات السياسيّة تتّفق بشأن أهمّيّة لجنة المتابعة كمؤسّسة وطنيّة ممثّلة للجماهير العربيّة الفلسطينيّة في إسرائيل، وتختلف في الإجراءات المتعلّقة بإعادة بنائها. وفي هذا الصدد كتب المحامي علي حيدر، في مقالته “نحو المجلس الأعلى للجماهير العربيّة”، قائلًا إنّ “المرحلة الأولى هي تأسيس المجلس الأعلى للجماهير العربيّة وإقامة أطر وتنظيمات واتّحادات مهنيّة وأهليّة، تجمع ما بين الهُويّة والوطنيّة والمهنيّة تُنتخب بشكل ديمقراطيّ وتمثَّل في هذا المجلس بالإضافة إلى رؤساء المجالس والأحزاب والحركات السياسيّة ممّا يقوّي ارتباط المجلس بالقوى الشعبيّة”.
انعدام المنافسة
ويقول “مدى الكرمل” إنه إذا أمعنّا النظر في أزمة لجنة المتابعة، على ضوء تشخيص مهنّد مصطفى منذ عام 2012، نرى أنّ أدلّة هامشيّة اللجنة تتمثّل بانعدام المنافَسة الجِدّيّة والندّيّة في الانتخابات التي عُقِدت وفيها أُعيد انتخاب محمّد بركة لرئاسة اللجنة.
وبرأي “مدى الكرمل” فإنه من الأدلّة على هامشيّة اللجنة ودَوْرها الشكليّ ما يستقى من بيانات الأحزاب والحركات السياسيّة (باستثناء حركة أبناء البلد) التي أكّدت أنّها تدعم المرشّح، معتبرا أن هذا التأكيد بدا وكأنّه مبايعةٌ جماعيّة للمرشّح الوحيد وتأكيدٌ على صوريّة الإجراءات الانتخابيّة. فضلًا عن هذا، نرى أنّ من أدلّة هامشيّة اللجنة لدى الأحزاب والحركات السياسيّة ذاك التكرار للتصريحات ذاتها، والإشادة بأهمّيّة عمل اللجنة ودَوْرها وضرورة تنظيمها، دونما مبادرة إلى الابتداء في هذا التنظيم وتطبيقه بحجّة الظروف وعدم توافر الوقت.
ويضيف: “على سبيل المثال، دعا التجمّع في بيانهِ إلى “الشروع فورًا بفتح نقاش وحِوار شامل في المجتمع حول مشروع إعادة بناء لجنة المتابعة وفي مركزه مقترح الانتخاب المباشر، الذي يشكّل نقلة نوعيّة في تنظيم وتطوير عمل المجتمع العربيّ”. أمّا الحركة الإسلاميّة، فذكرت في بيانها أنّها تريد “الوصول إلى تصوّر موحّد للجنة المتابعة العليا، تعريفها ورؤيتها وأهدافها ووظائفها وصلاحياتها ووسائل عملها ونظامها الداخليّ، كما تريد الحركة الإسلاميّة بناء لجنة المتابعة العليا، وجعلها مؤسّسة جماعيّة قويّة قادرة على تنظيم، قيادة وتمكين مجتمعنا العربيّ، والتخطيط لمستقبله وضمان أمنه وتطوّره”.
برلمان على حساب الميدان
ومن أدلّة هامشيّة لجنة المتابعة نظرةُ الأحزاب للقائمة المشتركة والعمل البرلمانيّ كساحة العمل السياسيّ الأساسيّ، وعليه وحوله تدور النقاشات الحزبيّة والتوتّرات والانقسامات. ونتساءل هنا: هل القائمة المشتركة هي من يدفع لجنة المتابعة إلى الهامش لتبقى (القائمة المشتركة) اللاعبَ الرئيسيّ في الساحة السياسيّة التي أُفرِغت أساسًا من عملها السياسيّ وأبقت على عملها الخدماتيّ؟
وهذا السؤال أشارت إليه الانتقادات المختلفة إثر إعادة تثبيت محمّد بركة رئيسًا للجنة المتابعة، ولا سيّما حركة أبناء البلد التي تتّخذ موقفًا معارضًا للمشاركة البرلمانيّة والدخول إلى الكنيست.
وقال المحامي علي حيدر في هذا الصدد، مشدِّدًا في مقترحه على أهمّيّة لجنة المتابعة إزاء العمل البرلمانيّ، إنّ “المبنى والسيرورة اللذين نقترحهما يخلقان مركزًا للحِراك السياسيّ والاجتماعيّ والجماهيريّ العربيّ ويزحزحانه من البرلمان الإسرائيليّ إلى مركز المجتمع، حيث يكون التمثيل في البرلمان الإسرائيليّ إحدى إستراتيجيّات العمل، والأحزاب والحركات السياسيّة تكون ممثّلةً في البرلمان وممثّلةً في المجلس الأعلى للجماهير العربيّة”.
ويرى حيدر أنّ العمل البرلمانيّ غير متعلّق ولا يؤثّر على لجنة المتابعة والاهتمام بتطويرها، وفي الإمكان النشاط بالتوازي. هذه المقولة التي يتبنّاها حيدر تأتي ضمن مقولة الأحزاب الحاليّة لا بأفعالها.
الخوف من فك الارتباط عن المواطنة الإسرائيلية
ويرى “مدى الكرمل” أن هذه المقولة، التي تؤكّد على أهمّيّة العمل المتوازي والتكامليّ بينَ لجنة المتابعة والقائمة المشتركة، هي التي تُفرَّغ باستمرار من جوهرها، وأصبحت تُجاري المقولةَ التي تتبنّاها حركة “أبناء البلد” والتي ملخَّصها أنّ المتابعة تنحدر في ظلّ القائمة المشتركة والاعتماد المتزايد على العمل البرلمانيّ، كما أظهرت الانتخابات الأخيرة، حيث ارتفع عدد مقاعد القائمة المشتركة إلى 15 مقعدًا، ممّا يبيّن أثرها في وعي الفلسطينيّين في الداخل، وانخفاض أهمّيّة المتابعة.
ويجد مصطفى في مقالته قبل سنوات (2012) أنّه “يتزاحم حول فكرة إصلاح لجنة المتابعة توجُّهان: التوجُّه الأوّل يطالب بإعادة بناء لجنة المتابعة، أمّا التوجّه الثاني فإنّه يطالب بإعادة تنظيم لجنة المتابعة، والفَرق بين إعادة البناء وإعادة التنظيم أنّ الثاني يطلب إصلاح اللجنة من الداخل، بينما يطلب التوجّه الأوّل إعادة بنائها من الخارج، أي تفكيك اللجنة وإعادة بنائها من جديد، ويتطلّب ذلك صياغة جديدة لدستور اللجنة وهيكليّتها، وفي هذه الحالة تكون الانتخابات المباشرة لمركّبات وأعضاء لجنة المتابعة في صُلب إعادة البناء”.
ويعتبر أن هذه التوجّهات خلقت استقطابًا ومحاصصة بينَ المركّبات، حيث إنّ الجبهة كانت ترفض إعادةَ البناء من الخارج والانتخابَ المباشر، لخوفها من اعتبار هذه الخطوة كفكّ ارتباط لها عن المواطَنة الإسرائيليّة، والخروج عن حيّز الدولة السياسيّ وبرلمانها، وهو ما يثير العديد من الإشكاليّات تجاه استمرار الجسم، والأحزاب، وشرعيّتها القانونيّة في الدولة، وفي ظلّ هذا الخلاف المستمرّ في العَقدَيْن الأخيرَيْن، نمت لجان مهنيّة في المتابعة، كخطوة إصلاحيّة.
خطوات إصلاحية
ولفت مصطفى إلى أنّ “النقاش الموسّع حول إصلاح لجنة المتابعة في العَقد الأخير ساهم في اتّخاذ خطوات إصلاحيّة بنيويّة، ولكنّها لم ترتقِ باللجنة على نحوٍ كافٍ كإطار قوميّ للجماهير الفلسطينيّة”.
على إثر ذلك، احتوت القيادات الخلاف المستمرّ بشأن أهمّيّة لجنة المتابعة مقابل البقاء في حيّز المواطَنة السياسيّ، من خلال لجان مهنيّة وبعض الإصلاحات في ما يتعلّق بالنظام الداخليّ، حتّى عام 2012. بَيْدَ أنّ الإصلاحات لم تكن بغية جعل لجنة المتابعة قيادة عليا سياسيّة، بل بغية جعلها لجنةَ تنسيقٍ أكثر نجاعةً، وَفقًا للتطوُّرات والمآلات التي نراها اليوم، حيث فشلت القيادات في تطوير آليّة انتخابيّة وبرامج عمل ومشاريع تستطيع الأحزاب التنافس لإدارتها وقيادة الجسم، بل أصبحت مجرّد جسم هامشيّ مقابل العمل البرلمانيّ.