في العام 2005، بعد مرور خمس سنوات على انتخابه رئيساً لروسيا، ألقى بوتين خطاباً للأمة قال فيه بأن تفكك الاتحاد السوفييتي في 1991 كان دراما حقيقية أبقت عشرات ملايين الروس خارج حدود الفيدرالية الروسية… هذا كانت الكارثة الجيوسياسية الكبرى في القرن العشرين. وأكد أن “مكاننا في العالم الحديث سيتحدد طبقاً لنجاحنا وقوتنا”. وغزوه لأوكرانيا كخطوة أولية لاحتلال الدولة بشكل كامل بعد مرور ثماني سنوات على ضمه لشبه جزيرة القرم لروسيا، يبدو تجسيداً لطموح بناء النظام العالمي الجديد، نظام لا تعيد فيه روسيا مكانتها كدولة عظمى متساوية في الوزن مع أمريكا فحسب، بل ستغطي عليها وستعرض واشنطن كذليلة وستحدد قواعد اللعب لدول أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، وتحطم الهيمنة الغربية – الأمريكية التي أملت منذ تفكك الاتحاد السوفييتي تركيبة الكتل والتحالفات والولاءات وطبيعة تقسيم رأس المال العالمي.
الشرق الأوسط لاعب مهم في ترسيخ استراتيجية روسيا الجديدة، وبوتين داس عليها بشكل تدريجي ومنهجي، وهو مصمم على تعزيز عرضه العسكري والسياسي. في 2015، بعد سنة على ضم شبه جزيرة القرم، قرر بوتين استغلال الحرب في سوريا لاستعراض قوته إرسال رسالة للدول العربية والولايات المتحدة. سلاح الجو الروسي وقوات روسية نظامية مع مليشيات مرتزقة خاضعة لقيادة روسيا أحدثت في فترة قصيرة نسبياً الانقلاب العسكري والسياسي الناجح الذي منح الأسد السيطرة على 80 في المئة تقريباً من أراضي سوريا. ولم يكن هذا مجرد مساعدة لصديق أو نية للسيطرة على مصادر النفط في سوريا.
خلقت روسيا ميزان قوة جديداً بدأ بسوريا وامتد إلى دول عربية وإسلامية أخرى بصورة بدأت تحطم حصرية أمريكا في إدارة الأزمات الإقليمية. كجزء من اختراقه للشرق الأوسط، عرض بوتين على إيران شراكة أيديولوجية تستند إلى اعتبار الولايات المتحدة عدواً مشتركاً. ولكن كالعادة، يد لاطفت والثانية صفعت. عندما تعرضت هذه الشراكة للامتحان الفعلي في سوريا، دفع بوتين إيران إلى الهامش ومنعها من تحقيق إنجازات اقتصادية وسمح لإسرائيل بمهاجمة أهداف لها، وهدد بذلك قدرتها على التأثير في التطورات في لبنان. في الوقت نفسه، خلقت موسكو صورة وهمية لشراكة استراتيجية مع إيران، عن طريق توقيع اتفاقات تعاون تجارية طويلة المدى وصفقات للتزويد بالسلاح. ما زالت الصفقات بانتظار التطبيق، لكن إيران استطاعت استخدام الورقة الموقعة كدليل على أنها ليست منعزلة في العالم.
وثمة مثال آخر، وهو تدخل روسيا في الحرب الأهلية الليبية، التي مدت فيها رعايتها للجنرال الانفصالي خليفة حفتر، وبذلك تحولت إلى حليفة للإمارات والسعودية ومصر، وفي موازاة ذلك أجرت لقاءات ونثرت وعوداً للحكومة المعترف بها. المبدأ الاستراتيجي الذي يوجه بوتين في المنطقة، وليس فقط فيها، هو الذي استندت إليه الحرب الباردة، “لعبة مجموعها صفر”، التي بحسبها أي إنجاز للولايات المتحدة هو بالضرورة خسارة لروسيا، وبالعكس. تم ترجمة هذه الاستراتيجية إلى صيغة “تعاون صراعي” الذي تناور فيه روسيا بين شركائها في المصالح، وبين صراع ضد من يهددها، شريطة أن تكون النتيجة الاعتراف بأهمية تدخل روسيا.
هذا المبدأ وجهها في بناء منظومة علاقات وثيقة جداً مع الإمارات والسعودية، وطرح مجدداً فكرة “الأمن الجماعي” لدول الخليج، وهو منتدى سيضم في عضويته دول الخليج العربية وإيران تحت مظلة روسيا. هذا الاقتراح الذي طرحه وزير الخارجية الروسي، سرجيه لافروف، أثناء زيارته لدول الخليج في آذار – نيسان، تم الرد عليه بإيماءة مؤدبة، وتم رفضه بنفس الأدب، الذي تضمن إعطاء وسام تقدير خاص للافروف من حاكم الإمارات.
دول الخليج، لا سيما السعودية، لم تنس حرب النفط التي أدارتها روسيا ضد السعودية في 2020. فقد رفضت روسيا في حينه عرض منظمة “أوبيك بلاس” التي كانت عضوة فيها، بتقليص استخراج النفط على خلفية نقص الطلب العالمي عقب وباء كورونا، وقررت الانسحاب من المنظمة. فردت السعودية بتخفيض 6 – 8 دولار للبرميل لزبائنها، وبذلك خفضت أسعار النفط في العالم إلى مستوى غير مسبوق بلغ أقل من 20 دولاراً للبرميل. الضرر الذي وقع لروسيا والدول الأخرى المنتجة للنفط، من بينها شركات أمريكية، كان كبيراً جداً. السعودية نفسها اضطرت إلى إلغاء مشاريع بمبلغ مليار دولار. إلى أن مارس الرئيس ترامب ضغطاً شديداً على السعودية، وهدد بحجب المساعدة العسكرية عنها إذا لم تتراجع عن سياسة التخفيض وتتوصل إلى اتفاق مع روسيا، وهذا ما حدث حقاً في نيسان.
حرب النفط لم تزعج روسيا في إدارة سنة أخرى من المفاوضات مع السعودية حول استثمارات وتعاون اقتصادي، لكن السعودية لم تسارع فعليا حتى الآن إلى توجيه استثمارات كبيرة إلى روسيا. في الوقت نفسه، خلقت الحوارات المتواترة للسعودية والإمارات والعراق مع قيادة روسيا انطباعاً، خصوصاً في أمريكا، بأن دول الخليج تحاول إيجاد بديل عن التحالف الحصري مع الولايات المتحدة. هذا الانطباع بعيد عن أن يعكس الواقع، حيث دول الخليج مرتبطة بروابط قوية مع السوق الغربية بعامة والسوق الأمريكية بخاصة، لكنها في المقابل تستطيع استخدام العلاقة الروسية كسوط تهدد به إذا ما انحرفت الولايات المتحدة عن السياسة التقليدية التي ثبتت لعقود التحالف العربي – الأمريكي.
مصر دولة أخرى تعرض عروضاً راقصة بين روسيا وأمريكا. حسب تاريخ عبد الفتاح السيسي، كانت مصر وقعت في 2017 على اتفاق لبناء مفاعل نووي روسي في الإسكندرية، وبعد ذلك، في 2018، وقعت على اتفاق لشراء طائرات “سوخوي اس.يو 35” الروسية. وبررت القاهرة شراء الطائرات لرغبتها بتنويع مصادر تزودها بالسلاح، بعد أن أوقفت الولايات المتحدة في 2013 صفقات شراء طائرات كعقاب على المس الشديد بحقوق الإنسان في مصر. الولايات المتحدة هددت مصر بأنها إذا ما اشترت الطائرات فقد تجر على نفسها عقوبات شديدة، وهو تهديد لم يفعّل حتى بعد أن هبط السرب الأول من الطائرات الروسية في القاهرة. يبدو أن استخدم “الخيار الروسي” لم ينحصر بكونه مصدراً لسلاح متطور في متناول اليد بدون قيود في استخدامه، بل أيضاً علم مصري أحمر قد يحذر واشنطن من التعامل مع مصر كدمية تشغلها من بُعد.
بالنسبة لروسيا، لم يقتصر الأمر بكونه صفقة شراء رابحة، مثل إقامة المفاعل النووي في مصر الذي سيمول بقرض سخي من روسيا، ولا تقاس بجدول الربح والخسارة، لأن المفاعل النووي والطائرات القتالية تعني علماء وتقنيين ومدربين من الروس، ومرافقة لعشرات السنين، وموقعاً سياسياً يرافق علاقة عسكرية. ولكن المثال البارز في سياسة “التعاون الصراعي” موجود في علاقات روسيا مع تركيا. المرحلة الأخيرة في هذه المنظومة التي تشبه رحلة في القطار الجبلي بدأت في 2015 عندما أسقطت تركيا طائرة قتالية روسيا، التي -حسب ادعائها- اخترقت مجالها الجوي أثناء عملية في الأراضي السورية. كان الرد الروسي سريعاً وشديداً؛ مقاطعة اقتصادية تقريباً شاملة فرضت على تركيا، وطلب من الشركات التركية التي عملت في روسيا بإغلاق أبوابها، ولم يسمح للسياح الروس الذين شكلوا نصيب الأسد في فرع السياحة في تركيا بالذهاب إلى تركيا، وأغلقت المعابر الحدودية بشكل كامل تقريباً.
مرت أكثر من ثمانية أشهر قبل أن يعتذر اردوغان لبوتين، ويوقعا على اتفاق تعاون استراتيجي. بعد ذلك، أظهر اردوغان استخفافه بالناتو وبالرئيس الأمريكي السابق ترامب، واشترى منظومة صواريخ مضادة للطائرات من نوع “اس 400″، التي أحدثت شرخاً عميقاً بين واشنطن وأنقرة، وجعلت ترامب يفرض عقوبات على تركيا. في سوريا، كان هناك في حينه تعاون شائب بين تركيا وروسيا على خلفية تطلع تركيا للسيطرة على شريط من الأراضي على طول حدودها مع سوريا. في حين طلبت روسيا من تركيا طرد عشرات آلاف مقاتلي المليشيات من محافظة إدلب السورية التي تجمعوا فيها. وهنا غابت أمريكا عن ساحة المعركة السياسية والعسكرية، وتركت المجال لسوريا بأن تشكل ساحة تحسسات بين اردوغان وبوتين.
ما ظهر كتعاون روسي – تركي في سوريا تحول إلى مواجهة سياسية في ليبيا عندما أيدت روسيا وتركيا القوات المتخاصمة، وهكذا أيضاً في الحرب على ناغورنو قرة باغ، التي ساعدت فيها تركيا أذربيجان، في حين أن روسيا منحت الدعم لأرمينيا. سلسلة المواجهات هذه أوضحت بأن الساحة السورية هي إحدى الساحات المسجلة في أجندة روسيا كأهداف للاحتلال المباشر أو غير المباشر. على أي حال، الحديث يدور عن حزام جيوسياسي تطمح روسيا إلى أن تسجل فيه انتصاراً وتحويله إلى حمايتها.
غزو أوكرانيا وضع أمام تركيا معضلة شديدة، التي تشبه بدرجة كبيرة المعضلة التي تقف أمام إسرائيل. تركيا باعت لأوكرانيا طائرات بدون طيار حربية متطورة، وتلقت عن ذلك تحذيراً روسياً شديداً. ولكن يبدو أن اردوغان اتخذ قراراً استراتيجياً بالوقوف إلى جانب أوكرانيا. فقد أعلن أنه سيواصل بيع السلاح ومساعدة الشعب الأوكراني. وأمس، أدان غزو روسيا بشدة، وطلب من بوتين وقف “العملية غير القانونية”، وأعلن بأن تركيا لا تعترف بخطواته ضد سيادة أوكرانيا. هذه بلا شك خطوة جريئة من جانب زعيم سياسي، التي هي مرتبطة بصورة جوهرية بتزويد الغاز والنفط من روسيا والسياحة الروسية. الآن يجب الانتظار ورؤية ما سيكون ثمن المقامرة التركية.
روسيا ترسم خارطة جديدة
إن فرض العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا والتي ستتقاضى ثمناً باهظاً منها، وستهز اقتصادات العالم، لا تشبه العقوبات المفروضة على إيران أو على سوريا. في المقابل، روسيا قادرة على الرد بعقوبات خاصة بها ورسم خارطة إقليمية جديدة تحدد فيها الدول التي أيدت، أو على الأقل لم تقم بإدانة الغزو، والدول التي انضمت لـ “العدو الأمريكي”. روسيا وأوكرانيا أكبر مزودتين للقمح للشرق الأوسط. سعر القمح قفز. وبالنسبة لدول فقيرة مثل مصر والأردن ولبنان، فهذا يعني رفعاً ضرورياً لأسعار الخبز الذي قد يستدعي احتجاجات وعدم هدوء مدني.
في المقابل، ليس لروسيا مصلحة في معاقبة دول إسلامية حتى لو لم تسمع إدانة أو شتائم، وليس سبب ذلك أن نحو 25 مليون مسلم يعشون في روسيا، بل لأن الدول الإسلامية التي قامت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي مثل أوزباكستان وأذربيجان وتركمانستان وطاجاكستان وكازاخستان وقرغيستان، تعتبر غزو أوكرانيا إشارة تحذير مهددة لها. وإذا كان بوتين يسعى إلى تأسيس اتحاد سوفييتي من جديد فستكون هذه الدول مسجلة أيضاً في لائحة الضم التي لديه، إذا لم يكن عسكرياً فسياسياً واقتصادياً. فهذه دول لم ترفع راية الإسلام كعامل مشترك مع الدول العربية والدول الإسلامية الكبرى مثل إندونيسيا وماليزيا، لكن هذه الراية قد تسحبها من الدرج إذا تحول تهديد روسيا إلى أمر ملموس.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 25/2/2022
اما اتعس واشقى العرب الذين يعتمدون في غذائهم على قمح الغريب والله إنه لشيء عجيب