قبل أربعة أعوام تقريباً بدأ القارىء العربي يتعرف على الروائية التركية الإشكالية أليف شفق من خلال روايتها الشهيرة (قواعد العشق الأربعون) حسب ترجمة دار طوى. وهي الرواية التي فرضتها في واجهة المشهد الأدبي العربي، باعتبارها أحد الأسماء البارزة في الأدب التركي الحديث.
وعلى الرغم من وجود ترجمة عربية لروايتها (قصر القمل) صادرة عن دار قدمس في دمشق، إلا أنها لم تحقق المقروئية المطلوبة عربياً، مقارنة بروايتها الأشهر، التي دفعت الناشر العربي إلى التفتيش في منجزها الروائي بأثر رجعي وترجمة روايتها (لقيطة استانبول).
إن حضور أليف شفق في الأوساط التركية لا يمكن تأريخه برواية (أربعون قاعدة للحب) حسب ترجمة دار الآداب. فهي حاضرة في المشهد التركي منذ نهاية القرن الماضي برواياتها: الصوفي، مرايا المدينة، النظرة، المد والجزر، الحليب الأسود، وغيرها. وهي معروفة بمشاغباتها وتصديها لموضوعات حرجة ووعرة كقضايا المرأة والهوية والأرمن. وقد حازت على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة، كما تعرضت للمضايقات والسجن بسبب مواقفها. إلا أن شهرتها أخذت مداها، وبدأت تتصاعد في المشهد العالمي بعد أن لجأت إلى الكتابة باللغة الإنجليزية. أو ما تسميها تهكماً (اللغة الإمبريالية).
المهم أنها صارت اليوم صوتاً أدبياً عالمياً. حيث تم اختيارها كضيفة لليوم الثاني في معرض الكتاب بلندن العام الماضي. وتجاوزت مبيعات رواياتها أحياناً مبيعات مواطنها أورهان باموك، الحاصل على جائزة نوبل للآداب. كما فاقت شهرتها أسماء تركية كبيرة مثل كمال يشار وعزيز نيسين وآخرين. أما في العالم العربي فهي تقيم اليوم في مرتبة متقدمة على قوائم القراء، إلى الحد الذي يمكن القول أنها صارت ظاهرة قرائية طاغية. فهي مطروحة بقوة وكثافة في المشهد الثقافي العربي. ولذلك سارعت دار الآداب إلى ترجمة آخر روايتها (شرف) بمجرد صدورها. فيما تفكر دور النشر في ترجمة مجمل أعمالها.
ظاهرة أليف شفق تعيد التذكير بظاهرة البرازيلي باولو كويلو. الذي تعرف عليه القارىء العربي بشكل مبدئي من خلال روايته الشهيرة (الخيميائي) التي فتحت له آفاق الشهرة العالمية. حيث ترجمها في أول نسخة بهاء طاهر تحت عنوان (ساحر الصحراء) كما تُرجمت إلى ما يقارب السبعين لغة. ومنذها صار يحتل قوائم الكتب الأكثر مبيعاً. فيما يصطف القراء في طوابير لاقتناء كل رواية من رواياته بمجرد أن يتم الإعلان عن صدورها. وبالمقابل حظي كويلو ذاته بلقاء زعماء سياسيين وروحيين عوضاً عن المثقفين. وذلك بصفته ظاهرة من ظواهر العصر، التي تتجاوز الأدبي إلى الأخلاقي والروحي، وباعتباره مستشاراً في اليونسكو للتبادل الحضاري.
وبسبب تلك الشهرة، وإقبال القراء على كل ما يكتبه، هجمت دور النشر العربية على أعماله وصارت تترجمها وتقرصنها بدون إذن منه. حتى أُغرق السوق برواياته الموسمية الكثيرة: حاج كومبوستيلا، على نهر بيدرا جلست وبكيت، فيرونكا قررت أن تموت، إحدى عشر دقيقة، الزهير، كالنهر الجاري، الرابح يبقى وحيداً، محارب الضوء، وغيرها. فيما صار هو ماكينة كتابية متجاوبة مع متطلبات السوق. وهكذا تأسس ذلك الميثاق اللامرئي ما بينه وبين دور النشر والقراء. وكأن كل من لم يقرأ رواية لكويلو لا يمكن اعتباره قارئاً.
في ظل صعود باولو كويلو، لم يعد أحد من القراء العرب يتذكر جورجي أمادو- مثلاً- الذي يلقب بروائي الشعب. وكان يحظى بسمعة عالمية، وترجمات عربية. لأن المشهد صار محجوزاً لصوت برازيلي معولم جديد. صوت بمقدوره أن يقدم وجبة أدبية مغايرة تختلف عما اعتاده القارىء، وتغري بالمزيد. إلى أن بدأت ظاهرة باولو بالخفوت تدريجياً. وصارت معظم تلك الروايات التي تتناهبها أيدي القراء وعيونهم تؤرشف في الذاكرة. إذ لم يعد اليوم الروائي الأول كما كان قبل سنوات. ولم تعد دور النشر تتسابق لترجمة رواياته بنفس الحماس الذي أبدته سابقاً. فرواياته التي كان القراء يتهادونها ويصطفون في طوابير لاقتنائها، صارت اليوم ملقاة على رفوف المكتبات والقرطاسيات خامدة يعلوها الغبار.
وفي سياق المقروئية والجماهيرية أيضاً، يمكن النظر إلى نجومية الياباني هاروكي موراكامي الذي تعرف عليه القارىء العربي من خلال روايته (الغابة النرويجية) بترجمة المركز الثقافي العربي. على الرغم من أنها ليست روايته الأولى إلا أنها تبدو الأشهر بين رواياته عند القارىء العربي. وبعد إقبال القراء على منجزه عاد الناشر العربي إلى منجزه مفتشاً عما يمكن نقله إلى العربية، فصدرت ترجمة لراويته (جنوب الحدود، غرب الشمس) عن نفس الدار، وترجمة أخرى عن دار نينوى. ثم رواية (رقص، رقص، رقص) عن المركز الثقافي العربي أيضاً. وترجمة أخرى عن مشروع كلمة. وفي سلسلة نصوص مهاجرة صدرت له ترجمة روايته (نعاس).
كذلك صدرت ترجمة لروايته (سبوتنيك الحبيبة) وترجمة أيضاً لروايته (ما بعد الظلام) عن المركز الثقافي العربي المتخصص في ترجمة أعماله. وما زالت روايته ( IQ84 ) على قائمة الإنتظار للترجمة وكذلك آخر رواياته (تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه). حيث صدرت الطبعة الأولى من الرواية مصحوبة بصرعة أو فنية تتمثل في ملصقات أعدها خمسة من المصممين اليابانيين. وهذا جزء من بدع الشهرة التي صار يحظى بها. حيث نُشرت قبل عامين لعبة عرفت باسم (موراكامي بينحو) للمعجبين به أو المترصدين لأعماله بالنقد.
هوراكي مواكامي يتصدر المشهد الروائي الياباني اليوم. ويحتل مكانة متقدمة جداً في الأدب العالمي. وحضوره الطاغي بالنسبة للجيل الجديد من القراء العرب يغيّب أسماء يابانية روائية كبيرة مثل كاوباتا وميشيما وكنزا بورو أوي. وهو أمر طبيعي لأن دور النشر تتسابق لتثبيته كظاهرة روائية هو الآخر. حيث صار القراء العرب يترقبون فوزه بجائزة نوبل كل عام فهو الأحق بها من منظورهم. تماماً كما يصطف القراء من جميع أنحاء العالم أمام نقاط بيع رواياته بمجرد الإعلان عن إصدار جديد له. إلى أن تصعد موجة روائية أخرى.
ولا شك أن ثمة فروقات كبيرة بين النماذج الثلاثة سواء على مستوى البراعة في السرد أو متانته. فإخلاص كل واحد من هذه الأسماء للخطاب الروائي يختلف عن الآخر. وهو أمر لسنا بصدده في هذا المقام. وفي المقابل هناك مشتركات تتقاطع في بؤرة القارىء. فهم نتاج ثقافة معولمة تتحدث مع القارىء بخطاب سردي لا يعتمد كثيراً على أبعاد الهوية المكانية. فهم ينطلقون من منصات اقليمية مختلفة، إلا أنهم يقدمون ذات المعاني تقريباً. إذ يصادف كل قارىء ما يعنيه في تلك المنجزات الروائية. بمعنى أن المزاج المعولم أنتج قارئاً عابراً للحدود والثقافات. بمقدوره التواصل والتماس مع كاتب يجيد هو الآخر مخاطبته، وموضعة نفسه في المكان المؤثر عالمياً.
كل ظاهرة من هذه الظواهر الروائية لها عمر افتراضي. ويوجد عند كل روائي منهم ما يجدر قراءته. ولكن، لا يمكن الجزم اليوم بما يمكن أن تكون عليه منزلة هؤلاء مستقبلاً مقارنة بظاهرة شكسبير وتولستوي وديستوفسكي. الذين اخترقوا الزمان والمكان بكفاءة أدبهم وليس بمنظومة من العلاقات العامة والدعاية الإعلامية. أما الناشر العربي فيبدو أنه لا يفتش في الحقل الروائي إلا عن الظواهر المحتفى بها عالمياً. إذ لا تمتلك أي دار نشر عربية من المجسات ما يمكن بها الإهتداء إلى الأدب الأكثر جدية وجمالية. وكأن كل من لم يقرأ اليوم اليف شفق مات ميتة جاهلية. تماماً كما كان الجهل بباولو كويلو، أو الإمتناع عن قراءته بمثابة رفض الإنتماء إلى نادي القراء.
* كاتب من السعودية
محمد العباس