لم يعد هناك ما يسوِّغ مواصلة الحديث أو التفكير في إشكالية فصل الدين عن الدولة، أو الوصل بينهما، على ما جاء في بدايات النهضة العربية الحديثة والمعاصرة. فقد تغيَّر الزمن وحُرف التاريخ عن مساره، وصارت للأمور وجهة لم نكن نتوقعها، أو على ما يرى البعض أن المشاريع العربية آلت إلى عكس ما كانت ترجوه الأنظمة، وما يرومه الزعماء وقادة الجيوش والحركات الوطنية الذين استولوا على الحكم.
ما كان ينبغي الحرص عليه كأفضل سبيل إلى بناء الدولة والدين، هو الديمقراطية، كوعي يجب تداوله بالقدر الذي تفلت الدولة من أي إمكانية للاستحواذ عليها، لأنها أصلا من طبيعة عمومية تتَأبَّى التَّملك وتَنِد عن الاستغلال والاستحواذ. فقد عرفت الحركات الوطنية الداعية إلى الاستقلال والسيادة، وإرساء أركان الدولة العربية معنى الديمقراطية، ونظام تداول الحكم ضدا على الاستعمار وممارساته وسياساته الفاسدة، ومن ثم كانت الصورة والنموذج الماثل عند القادة وزعماء العرب وملوكهم هو، تخطى الحالة الاستعمارية إلى ما ليست عليه وأفضل منه..
لكن مرة أخرى صارت الأمور في وجهة أخرى مناهضة تماما.. لأن التمادي في الحكم والاحتفاظ به بالقوة شجَّع الحركات الإسلامية الى التفكير في البديل الإسلامي من خارج نظام الحكم، وبالقدر الذي يكون فيه نقيض ما تتصوره السلطة الوطنية، أنهى إشكالية فصل الدين عن الدولة، كما طرحت زمن النهضة العربية، خاصة في سياق سقوط الخلافة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى، وبداية الحديث عن البحث عن خلافة عربية، أم يجب ترك أمرها بشكل نهائي.
والحقيقة، أن أمر مشروع الخلافة الإسلامية جاء من صلب الاستبداد السياسي، أي بداية من اللحظة التي تأكدت فيه الجماعات الإسلامية، أن السلطة قوام ثابت لا يقبل التعديل ولا التغيير، إلا لمراءاة الجماهير ودغدغتها بمظاهر تجديد مزعومة، ونوع من المتاجرة وتسويق الأوهام عبر الخطابات والإعلام الرسمي التابع للدولة. وعليه، أو هكذا يجب أن نحلل، إن ما كان قائما زمن الاحتلال الأوروبي للبلاد العربية، أعيد إنتاجه في عصر الدول الوطنية المستبدة. فمسألة الدين والدولة عانت دائما من عائق يعطل الدين والدولة كليهما. فقد صادر النظام العربي الدولة التي صادرت الدين في الوقت ذاته، الذي أصدر فيه دستورها أن الإسلام دين الدولة بينما الدستور، في النظرية السياسية، قانون أساسي لتنظيم سلطات الدولة وهياكلها وصلاحياتها، أي الإفصاح عن عدم قابلية الدولة للتمليك والاستغلال والاستحواذ لأنها مستقلة بشخصيتها المعنوية غير متوقفة، لا على الرجال ولا على الحكومات ولأنها من طبيعة اعتبارية وليس بشرية. وفي ضوء ما تقدم، نلحظ أن الأنظمة العربية انتهكت الشرعية على صعيد الدولة والدين معا، لأنها لا تملك شرعية توفر لها إمكانية الحديث أو التفكير وتقديم المقترح حول الدين وحول الدولة، فقد تصرفت في بداية بناء الدولة الوطنية على عكس ما حاربت به الاستعمار، وهو استقلال الشعب والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاعتراف الدولي، وهذا يعدّ انقلابا على الدولة، أما الانقلاب الثاني فهو حرمان التيار الإسلامي من الوصول إلى الحكم، كان أبرز مظاهره ما وقع في الجزائر، حيث سعت السلطة الى إلغاء انتخابات تشريعية يفترض أنها تعبر عن سلطة الشعب، وفي مصر، عمدت السلطة الى الانقلاب على أول رئيس جمهورية ينتمي إلى التيار الإسلامي، جاء عبر صناديق الاقتراع بطريقة ديمقراطية. بعد ذلك ظهرت أن إشكالية الدين والدولة لا تجري في إطار معقول ووضع يحفظ لها معانيها الجديدة والمتجددة، فلا الفصل كان يعني السلطة، ولا الوصل أيضا كانت تحفل به.. فقد تعاملت مع الوضع كغنيمة حرب على الاستعمار وما يزال هذا المبرر هو السائد، ما دفع بعض المفكرين ومراكز البحوث إلى أن يلجؤوا إلى صك مفهوم جديد: الاستعمار الجديد، أو ما بعد الكولونيالية، وليس تصفيته على ما كانت تسعى اليه الحركات الوطنية والإصلاحية زمن الاحتلال الأوروبي.
مسألة الدين والدولة عانت دائما من عائق يعطل الدين والدولة كليهما، فقد صادر النظام العربي الدولة التي صادرت الدين في الوقت ذاته، الذي أصدر فيه دستورها أن الإسلام دين الدول
متابعة مسألة الدين والدولة في العالم العربي من الناحية التاريخية، تفضي بنا إلى أنها مسألة غير تاريخية، لأن الأنظمة العربية تعاملت معها بالاغتيال والتصفية والسحق والمحق، واعتبرتها من الشرك السياسي، الذي يجب ألا يُفْصح عنه حيال الجماهير والشعب. ففي نواة السلطة قائم هذا الاعتراض الكبير: الدين للدولة/ النظام وليس للمجتمع ويجب أن يبقى الأمر كذلك، تماما كما جرى للدولة التي يجب ألا تستقل عن السلطة العميقة. ومن هنا، أن مسألة الدين والدولة تعني من جملة ما تعني تحرير الدولة وتحرير الدين في الوقت ذاته، ولعلّ الضامن الكبير للشروع في عملية التحرير الثانية هو تواضع الجميع بما في ذلك الهيئات الأممية على تصفية أجهزة الدولة من معوقاتها ومثبطاتها والمعادين لها. عندما يكون هذا هو الوضع في الوقت الراهن في موضوع الدين والدولة.. لا الدين ترك لشأنه ولا الدولة تركت لشأنها، يفصح كل واحد منهما ما يمكن أن يفيد المجتمع والعالم. فالدولة والدين يحتاجان إلى تحرير، ومن كان في موضع وموقع الاعتقال يصعب عليه تحرير الآخرين. فالحرية هي مُقوم ذاتي والتحرير مقوم مؤسساتي. ومن هنا يمكن القول، على ما يجري في الأرض الفلسطينية أن أقوى مقدرات الاحتلال الإسرائيلي، ليس أنها مسَخَّرة من قِبل القوى الاستعمارية في المنطقة العربية، بل العجز العربي الذي ينتظر تحرير الدولة والدين من نظام عربي خائب.
في تحليلنا وتفكيرنا لموضوع أو مسألة الدين والدولة في العالم العربي المعاصر نستند الى وقائع تاريخية، أي الى التاريخ الواقعي وليس لمعلومات وأخبار ومعطيات متداولة للترف والتسلية وتبادل الحديث بين أطراف لتبرير مواقف وآراء، بل ما رافق مسألة الدين والدولة وقائع تاريخية حركها واستدعاها الحَدَث العظيم الذي حوّلها إلى واقع يجب أن يجري التحكم فيه أو ينفلت ولا يندرج في السياق التاريخي السليم، على ما شهدته بقية الدول التي تأسست على مشاريع وصلت إليها. فالاستعمار حقيقة موضوعية وتاريخ متواصل، كما أن الحركات الوطنية والإصلاحية لها من الواقع مصداقية وجودها العِيَّاني، والأمر نفسه يصدق على الحركات الإسلامية، وأثرها الواضح على حياة الجماهير والمجتمعات، في أعقاب إخفاق الأنظمة الوطنية في إنجاز ما يمكن أن يصير الدولة العربية الكاملة المكتفية بذاتها ولا تقبل التمليك و الإجهاز عليه ومحاولة انتهاكها. كل ذلك موجود تاريخيا، غير أن كل ذلك أسير ينتظر التحرير والخروج من دائرة الاعتقال الذي يحرّر الدين والدولة ليس فقط لصالح الدولة العربية المكتملة المنزهة عن المصالح والدوائر والشلل، بل للعالم بأسره في عصر التكنولوجيات الفائقة الذي تلح على ما يهم العالم كله، وليس دوائر ولوبيهات وأنظمة ضيقة.. نعم الدولة العربية تستطيع أن تقدم للعالم ما يستعيد به توازنه، ويحفظ لهيئة الأمم مصداقيتها، كما أن الدين الإسلامي له من الإمكان المتجدد ما يسعف الإنسانية بإكسير معاصر للتقدم العلمي والوعي الفائق المساوق لآخر ما وصل إليه الإنسان.
قد ننهي أو نبدأ الكلام في مسألة الدين والدولة، لكن أبدا لا نشير إلى أن العالم العربي يجب أن ينتقل من الفرد إلى المؤسسة ومن ثم لا معنى لأي حديث خارج المؤسسة، سواء أكانت وطنية أم دولية، وأن الديمقراطية هي مفهوم يفهم به موضوع الدين والدولة وأنها أيضا الآلية التي يتداول بها الكلام داخل المؤسسة.. وإلا استمر الحصار والاعتقال، كما حاولت إسرائيل مع قطاع غزة وآل الوضع برمته الى طوفان حقيقي.. لا يزال وسوف يستمر في الإفصاح عن نفسه.
*كاتب جزائري