مسار النهايات غير المنظورة

من بين معطيات تراكمية عديدة أخرى، يأتي قانون قيصر الأمريكي ليعزز ضبابية مستقبل المشهد السياسي في سوريا، بإضافة ركيزة جديدة من ركائز بناء الدولة الفاشلة، على المدى المتوسط وربما البعيد، ذلك أن سائر التجارب المماثلة الممتدة عبر العالم وتاريخه السياسي الحديث تشير بوضوح تام، إلى نتيجة واحدة لا غير، تتمثل في تحول الأنظمة السياسية التي تخضع لعقوبات وحصار من هذا القبيل، إلى نوع من الوقف السياسي الممتد زمانيا ومكانيا على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بعيدا عن إمكانية الانتقال من وضع سياسي إلى آخر، أو عن احتمالية الخروج من حالة العطالة السياسية التي تتحول بدورها، إلى السمة الدامغة لهذه التجارب، على غرار التجربة الكوبية، أو الإيرانية، أو الكورية الشمالية، أو حتى العراقية، التي أفضت إلى كارثة سياسية، فضلا عن الفاجعة الإنسانية التي راح ضحيتها مليون طفل عراقي، ولم تمثل سوى رأس الجبل الجليدي لسياسات واشنطن العقابية في العراق، عقب حرب الخليج الأولى عام 1991، وذلك من بين تجارب كثيرة أخرى لم تؤد العقوبات التي فرضت على شعوبها وأنظمتها السياسية، إلا إلى تثبيت حالة الدولة الفاشلة، وإطالة عمرها، وخلق حالة أسوأ من الحالة التي فرضت بسببها العقوبات، التي غالبا ما تبقى تأثيراتها السياسية محدودة في ظل حالة متواترة من الخلل في إمكانية تضافر الجهد الخارجي، أو العامل الموضوعي مع الجهد الداخلي، أو العامل الذاتي عندما يتعلق الأمر بالسعي إلى تغيير نظام استبدادي ما.
في الحالة السورية، لن يختلف المشهد كثيرا في ظل المعطيات السياسية والميدانية، التي أعقبت ثورة السوريين المعاصرة، التي انطلقت عام 2011، وأعاقتها قوى الثورة المضادة المحلية والإقليمية وحليفاتها من القوى الدولية، التي تخلت عن التقليد الاستعماري القديم المتمثل في شن حملات دعائية، تبث من خلالها ذرائع واهية لتبرير حملاتها العسكرية حول العالم وأعلنت، في الحالة السورية، مقاصدها صراحة، ومن دون مواربة تذكر، بدءا من اهتمام موسكو بالجغرافيا السياسية لسوريا في حرب النفوذ التي تخوضها مع واشنطن، ومرورا بالنزعة الإيرانية القومية الميالة إلى التمدد على جناح الطائفية، وتركيا المشبعة بالهاجس الكردي، فضلا عن الدولة العبرية، الحالمة بخلق كيانات سياسية أحادية البنية الدينية، أو الطائفية أو العرقية مماثلة لها في المنطقة، بالاضافة إلى الأنظمة التي تصطك اسنانها خوفا من تمدد تجربة الربيع العربي في التغيير السياسي.

قانون قيصر الأمريكي يعزز ضبابية مستقبل المشهد السياسي في سوريا بإضافة ركيزة جديدة من ركائز بناء الدولة الفاشلة

راحت كل استراتيجية من هذه الاستراتيجيات، فرادى أحيانا وجماعات أحيانا أخرى، تتوغل في الأرض والمجتمع السوريين بشكل مباشر أو بالاعتماد على قوى محلية سورية، من خلال دغدغة مشاعر الأخيرة العرقية، أو الطائفية، أو الدينية بصورة عامة، لكن بينما تبدو التوجهات الروسية والإيرانية والتركية والإسرائيلية جلية في سياساتها وممارساتها الميدانية، فإن غموضا من نوع خاص يلف توجهات واشنطن شرق وشمال شرق سوريا، وتثار أسئلة كثيرة ليس حول أسباب وجودها العسكري هناك (22 قاعدة عسكرية)، على الرغم من تصريحات الرئيس دونالد ترامب والمسؤولين الأمريكيين المتكررة، عندما يتحدثون عن حقول النفط والإرهاب في هذه المنطقة، لكن السؤال المحوري الذي تبقى الإجابة عليه ملتبسة يتعلق في غيرة الولايات المتحدة الملتبسة أيضا على المصلحة الكردية.
تلك الغيرة التي تعدت كل أشكال التحالف والدعم، ورست أخيرا في اشتغال واشنطن ورعايتها لملف إعادة اللحمة للصف الكردي، من خلال إشرافها على ملف الحوار بين مختلف القوى والأحزاب الكردية، وفي مقدمتها المجلس الوطني الكردي، وحزب الاتحاد الديمقراطي، حيث تجري مساعي التقريب بين الرؤى السياسية لهاتين القوتين المحليتين تحت رعاية واشنطن بشكل مباشر، وفي قواعدها العسكرية في شمال شرق سوريا. فما هي مصلحة الولايات المتحدة في هذا المسعى الحثيث؟ سؤال تسهل الإجابة عليه خارج الأطر السياسية الكردية، لكن القيمة الحقيقية لتلك الإجابة لن تتأتى إلا من تلك القوى السياسية نفسها أسوة بسائر القوى السياسية والفصائل العسكرية المتماهية مع أجندات الخارج.
بطبيعة الحال، فإن الاختلافات بين القوى المحلية والإقليمية والدولية المتداخلة في سوريا، على صعيد محاولاتها لبسط نفوذ كل منها على جزء من الأرض والمجتمع السوريين، ونظامها السياسي تنحصر في الأدوات فقط ولا تتعداها، بينما تعبر استراتيجياتها جميعا عن المصالح الخاصة بكل منها، بعيدا عن مصالح القوى المحلية المتعاونة معها، فالبعض منها يستخدم القوة العسكرية الخارجية الخشنة، والبعض الآخر يفضل التوغل في التركيبة السكانية بطريقة ناعمة، بينما يلجأ آخرون إلى كلا الأمرين معا، وفقا لما تتطلبه معطيات اللحظة السياسية والتطورات الميدانية، وما تجلبه معها تلك اللحظة من تحالفات الضرورة الآنية والآيلة إلى الزوال، عند أول مفترق طرق. لكن نجاح هذه القوى الخارجية الجزئي والمؤقت، لم يأت من ضعف القوى المحلية، بما فيها النظام فحسب، بل جاء بفعل ارتهان الأخيرة للعامل الخارجي بالمعنى الكلي، ما أدى إلى انهيارها تماما، وما يعنيه ذلك الانهيار المنكر من تشوهات بنيوية في أجسام تلك القوى المحلية وسلوكياتها وتوجهاتها المشتبكة على الأرض، وفي ميادين الفكر والسياسة والإعلام، لكن أكثر تلك التشوهات خطورة وتأثيرا يتمثل في حرف مسار محاولة التغيير السياسي والصراع السياسي على السلطة وتشظي عناصرهما على محاور وجبهات عديدة، لا تمت لأصل القضية بشيء.
هذا المشهد السياسي المعقد والمستجد والطارئ على المشهد الأصلي للثورة السورية، يؤسس لحالة بنيوية جديدة لا يستوي التعامل معها من منطلق الصراع السياسي على السلطة، ما يشكل معضلة كبيرة ليس في ما يتعلق بسؤال: ما العمل فحسب؟ بل إنه يتعلق بالأساس في تراجع وانكماش القدرة على الفهم والتحليل وبناء السياسات المناسبة، بحيث تتحول أهداف سائر القوى المحلية والخارجية المشاركة في الصراع إلى مجرد مسننات في عجلة مسار طويل بلا نهايات منظورة، فحتى لو تمكنت أي قوة من تلك القوى من بسط سيطرتها وإنفاذ مشروعها في منطقة أو قطاع ما، فإن ذلك لن يعني نهاية المطاف، بل مجرد مقدمة لتفريخ محاور وجبهات واصطفافات جديدة في الصراع، الأمر الذي تثبته الوقائع على الأرض التي شهدها الصراع حتى الآن، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار تتطاول أذرعه إلى ما وراء الحدود السورية، ليبيا مثالا.
في المقابل، فإن تدرج وتشعب أشكال مقاومة هذه المشاريع مجتمعة، أو متفرقة سوف يكون، بطبيعة الحال، محكوما بتدرجات ألوان وأشكال تلك المشاريع نفسها وبطريقة ربما تكون أسرع مما يمكن أن يتخيله المرء، ما ينبئ بولادة قوى سياسية محلية متماهية مع تلك المشارع حينا، أو مناوئة لها في أحيان أخرى، وذلك إلى أن تظهر شروط مغايرة جديدة، تسمح للمشروع الوطني الديمقراطي، الذي قامت من أجله الثورة السورية المعاصرة، بالظهور والنمو وتسيد المشهد من جديد، الأمر الذي يلزمه الكثير من الجهد والوقت، والأهم القدرة على مواكبة المشهد السياسي المتسارع للصراع، وقراءته ليس بشكل جزئي أو في إحدى محطاته فقط، بل في مساره العام وعند كل منعرج من منعرجاته المتشعبة في اتجاهات الأرض الأربعة.
المعطيات الراهنة قاسية وعنيدة في المشهد السياسي السوري الراهن وتدك في حركتها الدؤوبة أسس البناء السياسي الاجتماعي السوري القائم منذ الاستقلال على وحدة الأرض والشعب السوريين، وتنبئ بتغييرات هيكلية عميقة ليس بفعل العوامل الخارجية فقط، بل بفعل تلك الانحرافات الكثيرة التي سلكتها القوى السياسية السورية على جانبي الصراع، عندما اقنعت نفسها وجمهورها بخيار المخارج الجهوية الضيقة، التي ليس لها أن تحيا وتنمو إلا على حساب الخيار الوطني الديمقراطي الجامع، الذي من شأنه، إن رأى النور، أن ينحي جانبا كل تلك الأوهام المتعلقة بالخلاص الفئوي على المستويين الجمعي والفردي على حد سواء، بينما تبقى الخطوط الفاصلة بين المشاريع الاستعمارية والأجندات الفئوية مبهمة ومشوهة وغوغائية إلى حد كبير.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية